Atwasat

في التعليق على ما حدث

جمعة بوكليب الخميس 26 أغسطس 2021, 09:09 صباحا
جمعة بوكليب

سواءٌ اتفقنا حول ما حدث في أفغانستان مؤخراً من تطورات أم اختلفنا. سواءٌ أصابنا بالذهول أو كان ضمن توقعاتنا. سواءٌ رجع التاريخ إلى الوراء، كما يرى البعض، أم تقدم للأمام متعثراً في خطوط منحنية. وسواءٌ اعترفت حكومات العالم بالحكومة الطالبانية الجديدة أم امتنعت عن الاعتراف بها. كل ذلك وغيره، للأسف الشديد، لن يغير ما حدث في أفغانستان مقدار ذرة. والتاريخ، شئنا أم أبينا، لا يعود القهقرى لأن أجهزة استخباراتية وعسكرية تقاعست عن أداء مهامها - ليس للمرّة الأولى أو الأخيرة - وقدمت تقارير بمعلومات مغلوطة، أو مفبركة إلى رؤساء حكوماتها، ويكفي التذكير بتقارير أسلحة الدمار الشامل في العراق. لكن ذلك كله صار تاريخاً، وعلى المؤرخين التعامل معه. أما بالنسبة لغيرهم، فالشمس، كما عهدناها، ستواصل الشروق، كل يوم غير مبالية بما قد يحجب نورها من غيوم. والفيروس الوبائي، رغم اللقاحات المضادة، لم يتوقف، حتى الآن، عن حصد الأرواح في مدن العالم المتقدم والمتخلف، ولا أعتقد أنه سيكف عنّا قريباً شروره، كما يؤكد العارفون. والدنيا، كما عرفناها، لن تلتفت للخلف تحسًراً، أو ترتبك في خط مسارها المعلوم/ المجهول.

فقط، 40 مليون مواطن أفغاني ، يسكنون تلك البلاد البائسة الفقيرة، صار عليهم التعامل مع حقائق الواقع الجديد المفروض بقوة السلاح، كما تعودناه نحن في ليبيا. المحظوظون منهم، تمكنوا من الفرار بجلودهم، إلى بلدان أخرى، هرباً على الأقدام عبر الحدود إلى بلدان مجاورة، أو حشراً كمواشٍ في طائرات شحن عسكرية غربية، مفضلين العيش في المنافي على جرّهم بالسلاسل إلى جنّة جربوها ولا يريدونها. لكننا نتمنى لهم جميعاً حياة هانئة في بلدان مهاجرهم، رغم علمنا أنهم سيقضون بقية حيواتهم بعيون ملتفتة إلى الخلف تحسّراً على وطن أضاعوه، أو سُرق منهم عنوةً، لا فرق.

لا جدوى، الآن، من الخوض في نقاش بيزنطي، حول تغير حركة طالبان من عدمه بعد عقدين من الزمن، لإيماني أن الثعابين، على اختلاف جنسياتها، وتنوع أشكالها وأنواعها، معروفة بتغيير جلودها، لكن ليس بتغيير طبيعتها. وحتى وإن اتفقنا جدلاً مع القائلين بأن حركة طالبان الحالية ليست هي التي ظهرت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فإن التغير، في نظري، سيطال أموراً شكلية، تجميلية لا غير. أما العقل الذي مازال سجيناً داخل قضبان الماضي، والقلب الذي يحلم بإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، فلم يطلهما ولن يطالهما تغيير.

ما يهم حقيقة هو هل في مقدور حركة طالبان انتشال البلاد من بؤسها، وهل ستتمكن من بناء هياكل دولة تنتمي للعصر؟ وهل بمقدور قادتها الجدد بناء جسور وطيدة من التعاون مع بقية أمم العالم وشعوبه؟ هذا الأمر لا أعتقد أن أحداً منّا، على معرفة ولو قليلة بحركة طالبان، يغامر بالمراهنة بماله عليه.

ذلك، في رأيي، أن من ينجحون، عادة، في إدارة المعارك العسكرية، ويقضون جزءاً كبيرا من أعمارهم في العيش تحت الأرض، لايعني أن النجاح الذي حققوه عسكرياً، من أنفاقهم الأرضية، سيمكنهم، ضمنياً، من تحقيق نجاح مماثل في أوقات السلم، وفوق الأرض، أوفي فهم واستيعاب آليات دولة مدنية وإدارة دواليبها المعقدة، وفي الخوض في غمار عالم معقد حرموا من التعامل معه، ولا يعرفونه، ويزداد تعقيداً كل يوم على مستوى علاقات دوله، وما ينتاب تلك العلاقات من تقلبات وتوترات وتوازنات وتحالفات، وما يعتريها من تبدلات يوماً بيوم، وفقاً لما يحدده مؤشر المصلحة.

ما حدث في أفغانستان مؤخراً، وعودة حركة طالبان، بعد عشرين عاماً، إلى كابول والتحكم في مفاصل الدولة والبلاد والعباد، يضعنا، أقصد نحن المسلمين، أمام مأزق تاريخي لا مفر لنا من مواجهته. وفي المركز منه سؤال يتعلق بما أطلق عليه اسم "الصحوة الإسلامية." الصحوة المقصود منها اليقظة من النوم، واستعادة الحواس، وعودة العقل والروح. إلا أننا، من خلال معرفتنا ومعايشتنا لحاملي لواء تلك الصحوة المزعومة، أدركنا، بعد وقت قصير، أنه يتوجب علينا الخيار بين طريقين لا غير: طريق تقودها داعش، وأخرى تقودها طالبان. وفي المسافة بين الاثنين تتعدد الفرق والألوان والرايات وتتنوع اقتراباً وابتعاداً. لكن جميعهم يتخندقون متحدين في ضفة معادية للعقلانية، ولإنجازات العلم والتقدم الحضاري إنسانياً، ويناوؤون المستقبل. لذلك، حكموا على أنفسهم بالحبس مراوحة في نفس المكان من التاريخ. فهم، وإن حاولوا، لن يتمكنوا من إعادة عقارب الزمن إلى الوراء لاستحالة ذلك فعلياً وواقعياً. كما أنهم لن يتمكنوا من اللحاق والانضمام إلى ركب الحضارة والتقدم الإنساني. وتبعات إخفاقهم وتداعياته العديدة، للأسف الشديد، سيقع تحميل أثقالها على كواهل مجتمعاتهم.