Atwasat

ليس في الجراب غير الدين

سالم العوكلي الثلاثاء 24 أغسطس 2021, 10:47 صباحا
سالم العوكلي

شكل النيهوم ثورة في النثر في المشهد الثقافي الليبي منذ الستينيات، وحقن المقالة الفكرية بلغة أدبية مشعة ما جعله نجما في الساحة ملهما للكثير من الشبان، وكثيرون استسهلوا تقليده بشكل أفضى إلى تسميتهم تلاميذ النيهوم الأغبياء، غير أن أحد هؤلاء التلايذه لم يكن مفتونا بنثره ولا بجمال عبارته، بل بشطحاته الفكرية التي كانت تطوح في كل اتجاه، وبالغرابة الكامنة أحيانا في تلك الأفكار الناقدة حد السخرية أحيانا لما قبلها، وبانتقائه من التاريخ ما يخدم فكرته دون أن يتكبد عناء وضع هوامش لمصادره، مثلما كان صوت المونولج عند النيهوم يرفض أن يناقش من انتقدوه أو ناقشوه متذرعا بكونهم يعيدونه إلى منطقة الفكر التي جاهد ردحا من الزمن كي يغادرها، ويصف الحوار معهم بأنه "نوع من الحوار المستحيل بين طرشان". القذافي كان أحد تلاميذ النيهوم الذي نقل الكثير من أفكاره إلى كتابه الأخضر بأسلوب ركيك مثلما يغش طالب غبي بطرف عينه من طالب ذكي.

البحث عن طريق ثالث بين الأيديولجيتين الحاكمتين في الكون ورد مبكرا في كتابات النيهوم، وكانت هذه الفكرة هي الشرنقة التي خرج منها ما سمي النظرية العالمية الثالثة التي تسعى للإطاحة بالأطروحتين مُبشِّرة العالم بالانعتاق والخلاص والحل النهائي، وجاءت هذه الفكرة التي طرحها النيهوم بشكل وتحليل مختلف في أسلوب الكتاب الأخضر الركيك كأنها مسخ، واللغة الركيكة، كما يجادل أمبرتو إيكو، هي إحدى سمات الفاشية الأصلية، أو كما يسميها اللغة الأرويلية.

الديمقراطية المباشرة إحدى شطحات النيهوم التي اقترحها سابقا ضمن غنائية الفكر الذي يتخذ المونولوج روحا له، وفق طبيعة الرؤية اليوتوبية التي تسلط نظرها على ضوء واحد في آخر النفق ولا يهمها ما يحدث حولها أو قبلها أو بعدها.

ما أثار هذه الشجون، مقالة أحمد الفيتوري "قارئة الفنجان التي تقود البلاد" المنشورة ببوابة الوسط 17 أغسطس 2021 ، التي يضع فيها الإصبع على الألم المزمن في هذه الأمة التي ما انفكت عبر التاريخ تحدق في السماء بينما الخراب يتراكم عند قدميها، مثل الفلاح البعلي الذي يحدق في الغيوم ويصلي لها وتحت أقدامه على بعد أمتار يجري نهر مياه، أو مثل قبائلنا التي كانت في أيام الجوع تتحارب على سقط المتاع، وتنتظر مائدة من السماء، بينما الكنز الذي جعلها تبني ناطحات السحاب تحت أقدامها.

هذا هو مكمن الألم، حيث نسينا أن الله برمج كائنات الأرض غير العاقلة جينيا بما يحل مشاكلها، بل وضع لها نظما اقتصادية وسياسية واجتماعية تتوارثه من خلال الجينات، ومهمة مخها الصغير أن يحرك عضلاتها كي تستجيب لأوامر الجينات، بينما زود الإنسان بجهاز عظيم وذكي داخل جمجمته كي يحل به مشاكله، وكي يطوره وينميه ليعمل بأقصى طاقة ممكنة عبر التعليم وتنمية المهارات والبحث والتحليل، غير أن أهم صالة لتمارين عضلات المخ هي الفلسفة المحرمة في شريعة من يريدون أن يعيشوا مثل ممالك النحل أو النمل المبرمجة إلهيا دون تغيير لملايين السنين.

في ثلاث مراحل من الزمن السياسي الليبي، يذكر أحمد ثلاث حالات تختصر آلية إعأدة التدوير التي نستخدمها في كل شيء ما عدا النفايات والقمامة حيث يجب أن تستخدم.

بداية الانقلاب العسكري، وأول القرارات المتمثلة في منع الخمر والأكل في الشارع؛ التي تضع الدين في فترينة الزعيم أو الحاكم السياسية كي يبهر عيون الرعية بالتقوى التي جاء من خلالها وسيحكم من خلالها. ثم خطاب رئيس المجلس الانتقالي في الاحتفال بيوم التحرير وقص الشريط ليبيا الجديدة، الذي بشر فيه المواطنين الفحول بعودة حرية الزواج من أربع. وصولا إلى بيان وتبيين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة، في مناسبة اليوم العالمي للشباب الذي كان "بمثابة عقد زواج شرعي:(عقد نكاح)، لمئات الآلاف من الشباب الليبي، من كانوا ساعة يستمعون، لذاك البيان، في ظلام دامس، تداهمهم الجائحة من كل صوب، يعانون البطالة، يحلمون بالهجرة غير الشرعية، من بلاد غاصة في حرب أهلية..... إلخ .".

المفارق يا أحمد، ولا أعرف إن كنت تشاركني الرأي، أن حاكم أول دولة وطنية في ليبيا، والذي جاء من خلفية دينية عميقة وطاعنة في التاريخ والجغرافيا، لم يستخدم هذا النهج في الاستقطاب، وحين قرأتُ كتاب بيلت "استقلال ليبيا والأمم المتحدة" الذي يرصد العامين المهمين في تاريخ تأسيس الدولة الوطنية، ويفسح مساحة واسعة لآراء السيد إدريس وحواراته معه، كنت أرى سياسيا محنكا بمسحة علمانية ترى أن حل أزمة بلد خام مقبل على الدولة لن يكون سوى عبر السياسة والاقتصاد والاجتماع كعلوم، واختيار الفضاء الحضاري المناسب للعمل ضمنه. نعم له سلطة روحية نابعة من الحس الصوفي الذي يميز الليبين ومن تاريخ أسرته وعلاقتها بقبائل برقة والجنوب خصوصا، لكن في كل بياناته وخطبه لم يتاجر بهذه البضاعة التي هي فعلا مكدسة في خزانة تاريخه. جادل السنوسي بيلت في أن الدولة الليبية لها انتماءات إسلامية وعربية تمت لها بالعاطفة، لكن تربطها علاقات تاريخية ومصالح مهمة بالشمال وحوض البحر المتوسط لا يمكن تجاهلها. رفض قفل شارع الكندي حتى تزول أسباب تلك الظاهرة السلبية عبر التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولم يصدر قرار حازما بمنع الخمور منعا باتا، ويقر الفيتوري الذي عمره من عمر الدولة الليبية تقريبا أنه كان ابن مدينة "حيث للخمور متاجر ومقاهٍ.". ليس هذا مربط الفرس، لكن لتوضيح أن من يستخدمون الدين غالبا هم المتطفلون عليه، والمتاجرون به.

لابد من العودة إلى البدء حتى تكتمل الصورة التي أشار إليها الفيتوري، دون أن نغفل تلك المعاطف الأنيقة التي خرج منها المستبدون والمتاجرون بعواطف الشعوب، فالنيهوم المغرم بتقويض كل الأطروحات السائدة دون أن يطرح بديلا في البداية، سيلهمه التاريخ الذي يتعامل معه بانتقائية لطرح البديل بعد أن وصل إلى عمر الأنبياء ونضج، سيرفض مصطلحات المجتمع المدني لأنها لم ترد في القرآن، ومن لندن وعبر مقالاته الدورية في مجلة الناقد، يقترح أن حل مشاكلنا كلها في العودة إلى الجامع يوم الجمعة كخيار ديمقراطي وحيد "يرضي المشاعر والعقول" قائلاً : "ليستعيد هذا اليوم المبارك هويته السياسية الضائعة". وبشعور ديني ممزوج بحس قومي سيربط تسييس الجمعة بنهضة العرب، قائلاً بيقين لا يعتريه الشك "إذ ذاك فقط.. سيسمع أعداء العرب هدير الزلزال القادم من قلب الأرض.. إذ ذاك فقط.". وسيؤكد أن قواعد الإسلام ليست خمسا ويضيف إليها قاعدة منسية وأهم وهي (الجهاد)، تلك القاعدة التي عاد القذافي وتحدث عنها مرارا في خطبه ومحاضراته، ونفذها تحت بند دعم حركات التحرر، أو دعم الجهاديين في الفلبين والصين وفي أفغانستان، مؤكدا دائما أنه ابن المجاهدين، أو داعيا أحيانا للحرب على الصليبيين.

حين بدأ الربيع العربي يخرج من الجوامع أيام الجمعات بصيحات التكبير وهدير الزلزال العربي، تذكرت اقتراح النيهوم لدرجة اتهمته بالعبقرية.

يقول النيهوم أيضا عمن جادلوه "الذين أرادوا أن يناقشوه نقاشاً أكاديمياً بارداً في الوقت الذي أراد فيه أن يخاطب العقول والمشاعر معاً" وربما هذا ما يؤكد اقتباس الفيتوري عن عبد الله القصيمي " البشر في الأكثر، يرحبون بمن يثيرون مشاعرهم، لا بمن يُعلّمون عقولهم".

حلق النيهوم بجناحي الفكر والمشاعر إلى أوروبا حيث قضى بقية حياته، بعد أن ترك تلميذه ــ دون قصد منه ـ الملازم أول معمر القذافي، الذي كما يصفه الفيتوري: "كان لافتا للنظر، محدودية" ثقافته وفقر تجربته، "عديم الخبرة بمجمل الحياة، وخاصة السياسة." ، يعيث في مجتمع بسيط، ودولة مازالت هشة، بمسوخ أفكار لا تصلح إلا لشطحات كاتب هيبي مغرم باللعب اللغوي، وبركل كل فكرة تقابله كعلبة صفيح في الطريق.

نعم، كما يقول الفيتوري "ليس في الجراب غير الدين" حين يتفشى الجهل بالسياسية، لكن الأساس الديني لكل سلطة عربية، ظل موجودا في طيات الكثير من الفكر الذي داهن المؤسسة الدينية، وحُسِب بعضه جورا على فكر التنوير أو فكر النهضة، ومازال يصدح بقوة هذه الفترة في لافتة عقيمة مفادها (تجديد الخطاب الديني)؛ التي يتلقفها الآن الكثيرون بقولهم عن طالبان التي كانت منذ شهر فقط تجري عمليات تفجير انتحارية في الفنادق والأسواق، أنها جددت خطابها الديني، وهي ليست مثلما كانت قبل عشرين سنة، وكأن العشرين سنة زمن يقاس في منظومة أيديولوجية سمتها الجمود، لم تتغير منذ أكثر من ألف سنة، بل تزداد مع الوقت تصلبا وتطرفا وتشوها وعنفا لم يتصوره حتى مؤسس الدين النبي محمد، الذي تطرح سيرته قيما مختلفة.

وأختم بالاقتباس الجميل والمحزن، عن أريكا يونغ، الذي ختم به الفيتوري مقالته: "ليست المسألة، متى بدأت الأمور تسوء؟، بل متى كانت على ما يرام؟.".

أما (ما يرام) هذه فكانت في قلب أهداف الربيع العربي وهتافاته حين كانت تقوده الطبقة الوسطى من الشباب المتعلم، قبل أن تتكالب عليه جماعات الإسلام السياسي بدعم دولي وإقليمي، لتجهض كل (ما يرام) في مهده، لكن لا يجب أن نتخلى عنها لأن من طبيعة المستقبل أن لا ييأس من الانتظار.