Atwasat

مقدمة في العملية الانتخابية

الهادي بوحمرة الخميس 29 يوليو 2021, 10:19 صباحا
الهادي بوحمرة

قبل بداية أي عملية انتخابية من الأهمية بمكان دراسة المخاطر التي يمكن أن تصاحبها، أو تنتج عنها، خاصة في ظل مجتمعات تعيش في حالة صراع مجتمعي، وسياسي، وعسكري. إذ إن فشل العملية الانتخابية في هذه الدول أشد خطرا من فشلها في غيرها، ذلك لأنه قد يؤدي إلى نتائج تمس وحدة الدولة ومقوماتها، ويدفع بالحوار والتفاوض بين الفرقاء السياسيين بعدها نحو مسائل كانت قبلها من المسلمات.

ومن أهم سبل الحد من هذه المخاطر، بناء الانتخابات على وثيقة دستورية جامعة، مصدرها الشعب، عبر استفتاء عام، من شأنها أن تكون سياجا واقيا لبنيان الدولة، وأن تشكل نقطة ارتكاز لانتخابات أقل خطرا. فبدون وجود هذه الوثيقة التي تضع مبادئ الدولة والمجتمع، وأسس بناء السلطات، وتنظيم الحقوق والحريات، قد يكون أثر إفساد العملية الانتخابية؛ بسبب عدم الاقتناع بعدالتها، أو شفافيتها، أو عدم الرضا بنتائجها، مدمرا. ومن هنا يمكن التأكيد على أهمية إكمال المسار الدستوري في ليبيا؛ قبل الولوج في أي عملية انتخابية؛ سواءً كانت برلمانية، أو رئاسية.

وبعد ضمان هذه النوع من الحماية، يجب أن يتلوها النظر للعملية الانتخابية على نحو يتجاوز كونها مجرد منظومة انتخابية، وسجل انتخابي، ومترشحين، وصندوق انتخابات، فكما أنها قد تدفع إلى الاستقرار، والسلم المجتمعي، ونحو انتظام الشأن السياسي، يمكن للانتخابات - في المقابل- أن تكرس الانقسام، وأن تزيد الحياة السياسية تأزما، والواقع الاجتماعي تشظيا، وأن تنتهي إلى تردى أوضاع البلاد بشكل أكبر.

وكما يمكن للانتخابات أن تفتح المجال نحو تجاوز الحواجز الاجتماعية، وتخطي كثير من أسباب النزاعات السياسية، يمكن أن ترفع من هذه الحواجز وتعمق من تلك الأسباب. وكما يمكن أن يكون من نتائجها تجاوز الصراع، أو الحد منه، وتضييق نطاقه، يمكنها- أيضا- أن تنتهي إلى تحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع مجتمعي، فبدل التقريب بين مكونات المجتمع والمصالحة الوطنية، قد تجعل من هذه الأخيرة هدفا بعيد المنال.

فقانون الانتخابات إما أن يُبنى على معايير منصفة، ويصاغ بطريقة واضحة شفافة، يمكن- من خلالها- إقناع الجميع بعدالة العملية برمتها، مما يساهم في تكوين رضا مجتمعي، يكون أساسا لمشروعية سياسية للأجسام المنتخبة، وهي مشروعية تحتاجها البلاد؛ لاستقرارها، وديمومة مؤسساتها، وأما أن تقوم على عشوائية، أو تمييز بين المدن، أو التكتلات السكانية، وبدون معيارية واضحة، مما يولد شعورا بالظلم، الذي قد يدفع- بدوره- جماعات، أو مناطق، أو مدنا، إلى نبذ العملية الانتخابية، ورفض مخرجاتها، والتموضع خارج إطار الحياة السياسية التي ترسمها.

ومتى كان الأمر كذلك؛ فإن من أهم مقدمات بناء قانون الانتخابات هو تحديد معايير ترسيم الدوائر وتوزيع المقاعد عليها؛ وذلك وفق معادلةٍ واضحة التركيب، وذات بناءٍ متين، مع ضمان إنفاذها بانتظام واضطراد على أنحاء البلاد كافة؛ دون تمييز.

إذ إن تفضيل جماعة على أخرى، أو تقديم مناطق على مناطق لمواءمات سياسية أو عسكرية، سيكون من أهم أسباب إخفاق العملية الانتخابية. فثبوت مثل هذا التمييز السياسي، أو حتى وجود شبهات بشأنه؛ على نحو لا تستطيع المذكرة التوضيحية للقانون أن تستبعدها؛ وبداية لوصف العملية الانتخابية بانعدام العدالة والشفافية والنزاهة من قبل أن تبدأ عملية الاقتراع.

فكما أن هناك انتخابات تسهم في التهدئة المجتمعية والسياسية؛ هناك عمليات انتخابية تُعطي نتائج عكسية؛ وتدفع البعض إلى اتجاه رفض الاحتكام للصندوق، ورفض الخضوع للسلطات التي ينتجها، ومعاداة مؤسسات الدولة. ومن هنا؛ فإنه يقع على من يقومون بتصميم العملية الانتخابية التزام الشفافية، وتجنب شبهات الميول السياسية والجهوية، وبيان المعايير التي بنوا عليها ترسيم الدوائر وتوزيع المقاعد؛ من خلال مذكرة توضيحية، يمكن معها الرد على اتهامات التلاعب والتمييز، وتأكيد عدالة قانون الانتخابات وشفافيته.

وهو ما يتطلب اتخاذ التدابير اللازمة للنأي بقانون الانتخابات عن التجاذبات السياسية ومصالح الكتل المهيمنة على السلطة التشريعية، ومن سبل إدراك ذلك أن يوكل أمر تصميم جدول ترسيم الدوائر وتوزيع المقاعد إلى لجنة فنية تفوض في ذلك ويكون قرارها ملزما، ويرفق بقانون الانتخابات، ويحال منها إلى المفوضية لإنفاذه.

من ناحية أخرى؛ يجب أن تقوم العملية على أهداف واضحة تضبط قبل الشروع في ترسيم الدوائر وتحديد النظام الانتخابي. فعندما يكون الهدف من الانتخابات هو تجاوز الفواصل الاجتماعية القائمة، ومحاولة تخطي آثار الحروب والدفع نحو تداخل أكثر بين سكان مناطق البلاد، يكون النظام الانتخابي مختلفا عن نظام انتخابي من الواضح من خلال القراءات الفقهية له وتجارب إنفاذه أنه- غالبا- ما ينتج عنه الإبقاء على الوضع السياسي والاجتماعي على ما هو عليه.

وعندما يكون الهدف هو تشجيع وجود الأحزاب، وترسيخ أسس استقرارها، وبناء التكتلات السياسية، ودفع المواطنين للإدلاء بأصواتهم على أساس برامج الأحزاب، وسد الأفق أمام الزعامات القبلية، يجب تجنب تبني نظام انتخابي يدفع إلى تكريس الواقع المجتمعي والقبلي، ويدفع الناخبين إلى الانحصار في مناطقهم التقليدية، والاصطفاف وراء القيادات القبلية، ويشجع على ظهور الزعامات المحلية والقبلية، ويمكّنها من بناء قواعد شعبية، والتحكم في الحياة السياسية.

وعندما يكون الهدف هو تركيز النشاط الحزبي في الأحزاب القوية التي لها قاعدة شعبية، والحد من ظهور الأحزاب الصغيرة التي لا قواعد معتبرة لها، ولا تقوم على برامج شاملة، فإن المشرع يجب أن يبتعد عن النظام الانتخابي الذي يسمح بتمثيل واسع للأحزاب، ويقوم على هدف تمكن الأحزاب الصغيرة عن طريق القوائم النسبية ونظام أكبر البواقي. وعندما يكون الهدف هو الدفع نحو إيجاد حكومة مستقرة قائمة على الكفاءات، فإن واضعي القانون يجب أن يتجهوا إلى نظام انتخابي يمكن الأحزاب القوية من تأليف السلطة التشريعية، وتجنيبها الحاجة لأن تكون رهينة أحزاب صغيرة سواء عند تكوين الحكومة، أو عند سن القوانين.

فمع وضوح الأهداف وفحص مزايا وعيوب كل نظام انتخابي؛ وفقا لها، يمكن تحديد النظام الانتخابي المناسب، والاختيار بين الدوائر الانتخابية الكبرى والصغرى، أو جعل البلاد دائرة واحدة. وبترتيب الأولويات والمواءمة بين الأهداف التي قد تتضارب، يمكن تقدير مدى المواءمة اللازمة بين أكثر من نظام انتخابي في نفس القانون.