Atwasat

تدوير الناخبين

نورالدين خليفة النمر الإثنين 26 يوليو 2021, 09:23 صباحا
نورالدين خليفة النمر

فوتت ليبيا الثورية 2011 على نفسها التجربة الحزبية التي تنضجها الديمقراطية، وتبلورها وتصقلها انتخابات شفافة وعادلة، واستعاضت عنها للمرة الثانية بالعشائريات والقبليات، والجهويات التي تتزيا بالفيدرالية والحقوق الأقاليمية المُدّعاة تاريخيا، وبالأيديولجيات الإسلاموية المستوردة والعدمية، واستعادة الدكتاتورية بمسمى جيش وهمي أطلق عليه أحد الكتاب الليبين ببلاغة الرواية الأدبية: اسم الجيش الميت.

تتوخى البرجماطية الانتخابية، في الديمقراطيات التمثيلية القارّة أو ما تنحو نحوها إلى التدوير لاعتقادها أن فائدة الدائرة الانتخابية تنبع من استخدامها، والفوائد المستهدفة هي:(أ) تمتين علاقة الناخبين بممثليهم (ب) إقدار الناخبين على إخضاع ممثلهم الفردي للمسؤولية والمحاسبة (ج)الاستقرار السياسي للبلد الذي تستهدفه النظم الانتخابية المعتمدة بلجوئها إلى التدوير الناخبي، لغرض تشكيل حكومات حزب واحد أو بالأحرى إئتلاف موحد قوي.

في ليبيا التى تزيفت ديمقراطيتها الشكلية بعد الثورة الشعبية 2011، في نتائج انتخابات المؤتمر الوطني 2012 ومجلس النواب 2014، تتوجه في 24 ديسمبر 2021 للمرة الثالثة لانتخابات تشريعية وربما رئاسية مزمعة، تواجه بعديد العقبات ربما تزحزحت، تحت ضغوط الدول النافذة في ليبيا، عقبةالاستفتاء على الدستور قبل الشروع في الانتخابات، لتخلي المكان لعقبات تخص تقنيات العملية الانتخابية المقترحة للخروج من الانتقالية المسدودة.

المعطلون يستفزون الطرابلسيين الذين يتملك ضميرهم التاريخي الشعور بالضيم من مبدأ الغلبة الذي ألغى أحزابهم الوطنية، وبديلاً عنها كرس الإمارة بمحتواها الأقاليمي عبر ما سمي بالفيدرالية في الاستقلال الليبي 1951، ومما لحقهم من تغيير وتزوير إرادتهم في انتخابات 1952، وما تبعها من التلاعب بالديموغرافيا والإحصاءات السكانية ودمج حدود المناطق في تشكيلات مجتمعية مترحلة تسمت بالمؤتمرات والشعبيات والجماهيريات المصغرّة، التي اقترفها بغرض التهوين من شأن الديمقراطية التمثيلية، النظام الدكتاتوري الساقط 2011 واستأنفتها الفوضى التي أعقبته في التلاعب بالتجاوز في منح الرقم الوطني وبأعداد هائلة لغير الليبيين.

تتأكد شكوك المراقبين من أن الإسلاميين هم من يقفون وراء هذه الحملة، كونهم المسيطرين على مجلس الدولة. يستبد بهم الخوف من إعادة الدكتاتورية العسكرية عبر الانتخابات الرئاسية. فقد رفضوا أي تصرف أحادي، وأكد مجلس الدولة باسمهم مشاركته مجلس النواب، في إقرار قانون الانتخابات العامة حسب المادة 23 من الاتفاق السياسي، لافتاً نظر المفوضية العليا للانتخابات وبعثة الأمم المتحدة للدعم إلى أن دورهما استشاري، ولايتعدى بعض الأمور الفنية .

ليس كمافي الاستفتاء على الدستور، حيث كانت ساحة المعركة منصات التواصل الاجتماعي، وقنوات الإعلام التي حفلت بردود أفعال، ليس من رئاسة مجلس الدولة فحسب، بل أيضاً من بعض أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، الذين استثار حفيظتهم مقترح المفوضية على مجلس النواب، زيادة أعداد الدوائر الانتخابية والمقاعد النيابية لتصبح 234 مقعدًا بدلًا عن 200 و32 دائرة انتخابية بدلًا من 13 دائرة، موجهين اتهامات لرئيس المفوضية بخرق القوانين، بل طالب بعضهم بضرورة إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية لانعدام شفافيته والبدء من نقطة الصفر .

رّدة فعل رئيس المفوضية بدأت بوصف هذه التصريحات والكتابات بأنها حملات مغرضة للنيل من سمعة المفوضية، وهدفها عرقلة جهودها الرامية لنشر ثقافة الديموقراطية. بل تجاوز بأن حذر القائمين على هذه الحملة بأنها تضعهم في مخاطر تناظر العمل الإرهابي الذي وقع على مقرّ مفوضية الانتخابات في 02 .05 2018 .

رغم أني لست مع القائمين على الحملة، ومتشكك في دوافعهم الحقيقية من ورائها، إلا أني كتبت على صفحتي الخاصة على الفيس بوك واصفاً ماصرّح به رئيس المفوضية في اتهامه لناقذيه بالإرهاب، قياساً على واقعة سابقة ومختلفة السياقات، هو نفسه إرهاب .

ذهنية التلفيق والاستسهال في عالمنا غالبا ما تصر على تجاهل الفرضية المزدوجة بوجهيها: غياب الانتخابات يعني غياب الديمقراطية، لكن ليس ضروريا أن يكون العكس صحيحا. فالديمقراطية نظام معقّد للغاية، والانتخابات الحرة تعد شكلا واحدا من أشكال الديمقراطية، وليس مجملها. فالانتخابات هي شرط ضروري ولكنه غير كافٍ للديمقراطية، وهو ما يتطلب خلفه مؤسسات دائمة، كالمفوضية العليا للانتخابات، تجسد القيم الديمقراطية ذاتها.

في تصريحين مخففين لتصريحه المخالف للديمقراطية، قال رئيس المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا، إن مقترح المقاعد وتوزيع الدوائر جاء بناء على طلب مجلس النواب، موضحًا أن تحديدها يجري على أساس الكثافة السكانية والتوزيع الجغرافي. وأن النسخة المسربة المتداولة على شبكات التواصل الاجتماعي حول توزيع الدوائر وعدد المقاعد، شهدت بعض التلاعب والتزوير، وتضمنت معلومات غير صحيحة.

لقد وصلتني على صفحتي هذه النسخ، وللتأكد منها دخلت على موقع المفوضية، فلم أجد خطاطة معتمدة من المفوضية لتقسيم الدوائر الانتخابية لانتخابات ديسمبر 2021، وبحتث دون لأي فلم أجد إلا في موقع قناة الجزيرة التقسيم الذي اعتمد عام 2012 لدوائر انتخابات المؤتمر الوطني، التي يُشكك اليوم في نزاهة نتائجها التي صبت في مصلحة ماسمي وقتها بتحالف القوى الوطنية .

من أبرز مساوئ الدوائر الانتخابية الفردية أنها تتطلب العمل على إعادة ترسيم حدودها من وقت إلى آخر وذلك للحفاظ على دوائر متساوية نسبياً من حيث عدد السكان. وبالتأكيد تحتاج الدوائر الانتخابية الفردية في بعض الدول إلى إعادة ترسيم كذلك. بالإضافة إلى أن ذلك يتطلب القيام بعملية مكلفة ومستهلكة للوقت، فإن إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية قد يؤدي إلى تفضيل مصالح حزب ما على حساب الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، بشكل متعمد أو عن غير قصد.

تتمحور الديمقراطية في العالم الرأسمالي الذي تتجاذبه اليوم العولمة والانكفائية تدريجياً في الانتخابات وملحقاتها: الاستفتاءات واستقصاءات الرأي، والتقنيات الانتخابية ومنها توزيع الناخبين في دوائر مكانية أوجغرافية وفي محيطنا العالمثالتي الذي تظهر ليبيا عنواناً لفوضاه وانقساميته، تصير الانتخابات فبركة تصطنعها الضرورة الدولية المتدخلّة في النزاع بأن تكون الواعز الملزم للجميع بإجراء ماوصفناه في مقال سابق بانتخابات الواجهة.

بمساعدة قوى دولية نافذة حرّرت الليبيين من سطوة الدكتاتورية المحلية عام 2011 بذلت ممثلية الأمم المتحدة مجهوداَ خارقاً تتوج بحكومة وحدة وطنية مهمتها الرئيسية تهيئة الليبيين لاستحقاقهم الانتخابي بكل ملابساته في 24 ديسمبر 2021. هذا المجهود تعوقه قوى دولية وإقليمبة أخرى عبر ممثليها الليبيين في مؤسسات كالبرلمان العاطل في طبرق، ومجلس الدولة المُعَطِّل في طرابلس، وميليشات وتوهم جيش يدوسون على كرامة الليبين وإرادتهم في دولة مدنية تأخذ بأسباب الديمقراطية. ولكن البعثة الأممية في ليبيا لا تيأس من وجود مخرج من النفق، فبحضورها والمفوضية الوطنية العليا للانتخابات مع لجنة ممثلة لمجلس النواب في طبرق، ستناقش خلال الاجتماعات التي تُعقد ابتداء من 26 ـ 29 .07 .2021 بالعاصمة الإيطالية روما التشريعات اللازمة لتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة في 24 من ديسمبر لعرضها على مجلس النواب لإقرارها.