Atwasat

في ذكرى رحيله.. صديقي دقّش الذي عرفته

علي الدلالي الأربعاء 23 يونيو 2021, 11:58 صباحا
علي الدلالي

كان هادئا مبتسما في المركز الإعلامي الملحق بـ "قاعة الشعب" في طرابلس (ليبيا) وهو يجيب على أسئلة الصحفيين حول انعقاد قمة منظمة الوحدة الأفريقية التي استضافتها طرابلس في أغسطس 1982 (القمة أفشلتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بالضغط على عديد الرؤساء الأفارقة كي لا يتحولوا إلى طرابلس، وفي نوفمبر من نفس العام أفشلتا القمة الثانية، لعدم تمكين الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، من رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية، حيث حضر في القمة الأولى 30 رئيس دولة وفي الثانية 31 رئيس دولة، فلم يكتمل النصاب بحضور ثلثي الأعضاء في المنظمة القارية).

تلك هي الصورة الأولى التي أحتفظ بها في ذاكرتي عن الراحل الكبير، د. إبراهيم دقش، الأخ والصديق، والأستاذ، وأنا في بداية مشواري مع مهنة المتاعب.

خلال قمة نوفمبر 1982 التي تم إجهاضها، وجد الراحل نفسه في موقف محرج، وأسمح لنفسي بروايته لأني كنت شاهدا عليه، حيث نقل إليه رجل ليبيا في أفريقيا وقتذاك، الراحل، د.علي التريكي، رسالة شفهية من الزعيم الليبي، يطلب منه الإدلاء بتصريح للصحفيين في طرابلس، يعلن فيه اكتمال النصاب، في محاولة لحث بعض الرؤساء المترددين على الحضور. إلا أن الراحل د. دقش ردٌ علي المبعوث الليبي بأن ذلك ليس ممكنا وسيكتشف العالم زيف هذا التصريح، وستكون العواقب وخيمة.

فقال له د. التريكي: "لا أستطيع أن أنقل هذا الرفض إلى العقيد". عندها رد الراحل: "سنذهب إليه معا وأنا سأحاول إقناعه".

وبالفعل، تحوًل الرجلان إلى إقامة العقيد القذافي الذي يعرف د. دقش شخصيا، وعند عودته أسر الراحل إلى عدد من الذين يثق بهم، وكنت من بين الحاضرين ممثلا عن وكالة الأنباء الليبية: "أقنعت الأخ العقيد بأنه يتعين افتتاح القمة في طرابلس بمن حضر ونغير اسمها إلى" قمة رؤساء الدول الأفريقية سيدة قدرها"، مؤكدا أن الفكرة أعجبته وقال (القذافي): "نعم لسنا في حاجة إلى أولئك الذين تسيرهم الدوائر الإمبريالية".

هذا موقف من مئات المواقف من كواليس القمم الأفريقية التي عايشها د. إبراهيم دقش، وصنعها، أو شارك في صناعتها، وآمل أن يكون احتفظ بها في أرشيفه لأنها تكشف جزءا مهما من التاريخ السياسي في القارة الأفريقية.

التقينا بعد ذلك في عدة قمم للمنظمة القارية غير أنني لم أعرف الراحل عن قرب إلا عام 1989 عندما التحقت للعمل بوكالة أنباء عموم أفريقيا كمدير للمكتب الإقليمي / شمال أفريقيا.

كنت وقتذاك في دكار، المقر الرئيسي للوكالة لتوقيع عقد العمل، ونصحني المدير العام الكونغولي أوغوست مباسي موبا، أن أسافر من دكار إلى أديس لأستلم وثيقة المرور الدبلوماسية لمنظمة الوحدة الأفريقية لتسهيل حركة تنقلي بين دول القارة، وقال لي: "تواصل مع د. إبراهيم دقش ليقدم لك كل مساعدة قد تحتاجها حيث سبق وأن تولى إدارة (بانابريس) لمدة عام سنة 1985".

وبالفعل ذهبت إلى أديس واستقبلني الراحل د. إبراهيم دقش الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير الإعلام، الناطق الرسمي باسم منظمة الوحدة الأفريقية، وساعدني في إتمام إجراءات الوثيقة الدبلوماسية واستضافني في بيته كأحسن ما تكون الضيافة، وعرفني على أديس أبابا (الوردة الجديدة)، التي كانت جميلة جدا، إسما على مسمى، تنتصب فوق هضاب خضراء، وكانت أيضا بائسة جدا، يمشي الفقر في شوارعها وتقرأه في عيون ساكنتها.

توالت لقاءاتنا بعد ذلك خاصة عندما تولى منصب مستشار مجلس إدارة (بانابريس) الذي شغله بكل إخلاص وتفان ودون أي مقابل مادي، لإيمانه المطلق والثابت بضرورة أن يمتلك الأفارقة مؤسسة إعلامية قارية هواها إفريقي وأقلامها أفريقية وأحلامها أفريقية.

توطدت علاقتي بالراحل د. إبراهيم دقش عندما عملنا معا على هامش القمم الأفريقية، وكنا جميعا نخجل عندما نتعب فيما لا يزال د.إبراهيم دقش، الذي يكبرنا ببضع سنوات، ينقش كلماته بالعربية تارة والإنجليزية تارة أخرى، ويضفي على مركز الإعلام الخاص بوكالة (بانابريس)، جوا من المرح ننسى معه ساعات العمل المتواصلة، والمستحيلة أحيانا كثيرة .

لقد قال زميلنا الأستاذ عبد الرزاق طريبق، الصحفي المغربي، الذي انتدب للعمل في القسم العربي ذات يوم، وكان يصغرنا سنا: "من الصعب جدا أن تعمل مع قامة سامقة مثل د. إبراهيم دقش، يستيقظ قبلك ويحضر قبلك إلى العمل ويغادر بعدك".

كان الراحل الكبير محاربا لا يكل ولا يمل في السعي لتأمين التمويل الخاص بتشغيل الوكالة القارية، وكان يتنقل من القاهرة إلى جوهانسبورغ مرورا بطرابلس ودكار وأبوجا وغيرها من العواصم الأفريقية.

وبالرغم من ارتباطه بالعمل كممثل للسودان في نيباد، بعد أن انتهى عمله مع منظمة الوحدة الأفريقية، كان يلاحق وزراء الخارجية في المجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي والرؤساء الأفارقة الذين يعرف معظمهم معرفة شخصية، من خلال خبرة امتدت ربع قرن في كواليس منظمة الوحدة الأفريقية، وحوالي أربعة عقود من العمل الصحفي، لحثهم على دعم المؤسسة الإعلامية القارية.

في عام 2007، التقينا في يناير في أديس على هامش قمة الاتحاد الإفريقي، كان الإسمنت المسلح بدأ يزحف على الهضاب الخضراء في أديس، فقال د. دقش ونحن ندخل إلى فندق "غيون" حيث نقيم: "بعد كم سنة لن تجد هذا الفندق في قلب أديس مع حديقته التي تزيد مساحتها عن الهكتارين".

كان مقررا أن نلتقي بعد أسبوع في دكار(السنغال) لحضور اجتماع مجلس الإدارة. وبالفعل نزلت كالعادة ذات صباح إلى مطعم فندق (نوفوتال) لتناول وجبة الإفطار فوجدت د.دقش أمام كوب الشاي بالحليب الساخن الذي يتناوله كل صباح. سلمت عليه وسارعت لإخراج مذكرتي ووضعت بين يديه قصيدة كتبتها عن أديس: قرأها وتبسم ثم قال: "والله يا علي لقد جهزت مقالا عن أديس سأرسله اليوم إلى الجريدة في الخرطوم، وأستأذنك في أن أرفق القصيدة مع مقالي".

فهمت أن القصيدة أعجبته وكان شرف لي أن ينشرها د. دقش ضمن عموده الشهير(عابر سبيل).

وبالفعل بعد تقديم مقاله عن أديس، المدينة التي عاش فيها ربع قرن وأحبها، والصخب الذي باتت تعرفه نهارا وليلا، و"الميركاتو"، وساحة "الصليب"، والنهضة التي تشهدها على حساب جمالها، قدم لقصيدتي قائلا: "وهذا عربي مثلي، من صحراء شمال إفريقيا، سحرته أديس فكتب".....!

وتوالت الأيام، وقاد الراحل معارك كثيرة على عدة جبهات لإبقاء (بانابريس)، التي يقول "إنها مني"، تنبض بالحياة ولا تنطفئ، إلى أن جاء العام 2011 حيث رحل نظام العقيد معمر القذافي تحت وطأة ثورات ما عُرف بـ "الربيع العربي"، واستقال رئيس مجلس الإدارة، ممثل دولة ليبيا، فاختارت السلطات الليبية الجديدة د. إبراهيم دقش لتولي رئاسة مجلس إدارة بانابريس بالإنابة مؤقتا، ليواصل نضاله من أجل استمرار تدفق الكلمة عبر شبكة الوكالة القارية بأربع لغات، العربية والفرنسية والإنجليزية والبرتغالية.

في العام 2018 سمعت للمرة الأولى د. قش يقول إنه مريض... ولكن من أسميناه " Freedom Fighter" لم يلق السلاح ولم يستسلم... واصل النضال كما عهدناه...

لعلي أذكر هنا آخر لقاء بيننا في دكار في أواخر يونيو بداية يوليو 2019 حيث شاركنا في الاجتماع التشاوري لمجلس إدارة الوكالة القارية.

وفي ذات مساء كنا نتسامر في بيت المدير العام، د. أبوبكر فال، في قرية نغابارو الساحرة على المحيط الأطلسي (80 كلم جنوب دكار)، حيث أسررت له في جلسة أخوية أنني تعبت وقررت مغادرة الوكالة القارية، فرد قائلا، وفي نبرته شيء من الغضب والكثير من العتاب: "لن أسمع هذا الكلام ولن تغادر. لقد ناضلنا معا وسنواصل هذا النضال. ليس أنت الذي يقول هذا الكلام بعد هذا التاريخ".

وعندما رافقته في نهاية تلك المهمة إلى مطار (دكار- بلاز ديان) « Dakar Blaise Diagne »، ليستقل، كعادته، الطائرة "الأثيوبية" عائدا إلى الخرطوم عن طريق أديس، كان آخر ما سمعته منه وأنا أودعه، وأشهد الله على ذلك: "خلي بالك على نفسك في ليبيا، الوضع الأمني صعب... ستقف ليبيا على أقدامها يا علي... أستودعك الله... وأضاف انزع من رأسك فكرة مغادرة بانا، قد لا نلتقي مرة أخرى".

لن أخوض كثيرا في تلك الصدمة التي ألمت بي عند سماعي بخبر رحيل الدكتور إبراهيم دقش، وأكتفي بالإشارة هنا إلى أنني كتبت عند وفاة أمي، رحمها الله، لقد فقدت عنوان النضال، وعند رحيل والدي، رحمه الله، لقد فقدت كل العناوين، وها أنا أشعر، بوفاة د. إبراهيم، الأخ والصديق، رحمه الله، وكأنني أفقد الاتجاهات.

يقول المثل الإفريقي: "عندما يرحل كبير تحترق مكتبة"... لقد رحل إبراهيم، "Freedom Feighter" كما أحب أن أناديه، ليرد علي بلغته الإنجليزية الرائعة: "Yes Sir" ، واحترقت مكتبات عديدة.