Atwasat

مشروع الدستور بين الجهوية والدين

صالح السنوسي الإثنين 21 يونيو 2021, 09:37 صباحا
صالح السنوسي

أسفرت انتخابات الهيئة التأسيسية للدستور عن نتائج أظهرت ما يمكن تسميته خارطة القوى السياسية في هذه الهيئة، وبدا حسب كل ما هو ظاهر من الأسماء، أن التيار المدني هو الأغلبية المطلقة وأن تيار الإسلام السياسي لم يحصل سوى على عدد قليل من الممثلين في هذه الهيئة.

وهذا كان يعني أن الغالبية الساحقة من الليبيين يرفضون أطروحات الإسلام السياسي وأنهم اختاروا دولة مدنية لا تقع تحت رحمة الرؤية الدينية المتعلقة بالدولة والسلطة لهذا التيار، هذا وكان يعنى أيضا انعكاس إرادة هؤلاء الناخبين في دستور يؤسس لدولة مدنية يتساوى فيها المواطنون بصرف النظر عن عرقهم ودينهم وجنسهم، ويتمتعون فيها بحريات التعبير والاعتقاد والاختيار، لكن بعد مسيرة قصيرة وقع هذا التيار المدني في شرك الجهوية والجهوية المضادة .

انقسم هذا التيار إلى طرفين، أحدهما يحمل راية التهميش والحقوق الضائعة، وثانيهما يرفع شعار المحافظة على وحدة الوطن والدولة، فجرى بينهما تبادل التهم. فمن يرفع شعار وحدة الوطن والدولة يتهم الطرف الآخر بأنه جهوي متطرف يزرع بذور الانفصال في الدستور ويهدد وحدة الوطن، فيرد عليه هذا الأخير بأنه هو الجهوي لأنه يرفع شعار وحدة الوطن من أجل المحافظة على مكتسبات مركزية لا يريد التفريط فيها ولا يستطيع الدفاع عنها إلا برفع شعار وحدة الوطن.

إذن، ما كان متوقعا من انسجام نسبي في العمل بين مكونات تيار الأغلبية المدني أصبح غير ممكن في ظل تباعد هذه المواقف. بل أصبح وجود كل طرف يتغذى على وجود الطرف الآخر، وبدت جلسات الهيئة وكأنها جلسات للجمعية العامة للأمم المتحدة تضم ممثلين كل منهم يدافع عن أمته، وليست هيئة انتخبها ثلاثة مليون ليبي لتصيغ لهم دستورا لدولة مدنية يتمتعون فيها بحريات وحقوق طالما افتقدوها طوال أربعين عاما.

لقد بلغ الخلاف وعدم التوافق بين الطرفين إلى الحد الذي جعلهم يعقدون جلسات خارج ليبيا تحت رعاية دول من أجل تقريب وجهات النظر بينهم حول مسائل ليبية، وإن كان ذلك أصبح عادة درجت عليها كل المؤسسات الليبية بعد انتفاضة السابع عشر من فبراير، إلا أنه في الحالة التي نحن بصددها، توضح أكثر المدى الذي وصلت إليه شقة الخلاف بين أطراف هذا التيار الذى نعتبره مدنيا.

لقد أتيحت لي فرصة لقاء بعض الأصدقاء والمعارف من أعضا الهيئة فاتضح لي يومها أن الثقة باتت مفقودة بين الطرفين والخلاف مستفحل داخل المؤسسة. أما في الخارج فكان الانقسام والحروب والتشظي وخطابات الكراهية والتخندق الجهوي والقبلي والمناطقي، فكان كل هذا يضغط ويغذى الخلاف الدائر داخل الهيئة والقليل فقط ينجو من تأثير ذلك، وفي ظل تلك الأجواء ازداد، تصلب وعناد وتمسك كل طرف بوجهة نظره، فأصبح - على ما يبدو- ما عدا ذلك من القضايا مثل مدنية الدولة والحقوق والحريات ليست محور الاهتمام الأكبر، بل أصبح كل طرف يبحث عن حليف يسنده عندما تأتي مرحلة التصويت بصرف النظر عن خطورة أطروحات هذا الحليف على مفهوم الدولة المدنية وما تمثله من حقوق وحريات، وعند هذا المختنق – حسب تصوري- استطاع زملاء الطرفين من ممثلي الإسلام السياسي تمرير وتثبيت المادة الثامنة في المسودة الأولى التي أصبحت المادة السادسة في مشروع الدستور، والتي في حقيقة الأمر لم تترك للطرفين ما يمكن أن يتصارعا عليه سوى بعض القشور الجهوية.

فقد وضعت هذه المادة الدولة والسلطة تحت تصرف المفتي والفقيه والمحتسب، ومنذ تلك اللحظة أصبحت مسودة الدستور وتحويلها إلى دستور يستفتى عليه بنعم، هو القضية المركزية للإسلام السياسي، لأن ذلك يعتبر نجاحا باهرا في تحقيق قناعته الآيديولوجية ورؤيته للدولة وللسلطة، ولهذا فمن المنطقي أن يجند كل قدراته ووسائله للوصول بهذه القضية إلى غايتها النهائية، أي إقرار هذا المشروع كدستور لتصبح هذه المادة سرمدية لا يطالها بعد ذلك لا تعديل ولا تغيير للدستور، ولكن تمريرها وتثبيتها كنص في مشروع الدستور ليس إلا نصف انتصار، فقد يسقط المشروع عند الاستفتاء.

إذن أصبح عرض المشروع وإقراره بنعم هو أكبر مشاغل تيار الإسلام السياسي ولم يجد – على ما يبدو- سوى وسيلة واحدة لتحقيق ذلك وهي إضفاء الطابع الجهوي فقط على الجدل الذى يجري حول مشروع الدستور، وحيث أن تثبيت هذا النص في مشروع الدستور قد تم بفضل انقسام الهيئة، فإن عرضه وإقراره بنعم لن يتم إلا بالكيفية نفسها، أي من خلال إذكاء وتعميق المشاعر الجهوية والمناطقية داخل المجتمع لأن ذلك سيؤدي إلى جملة من النتائج من أهمها:

1- تمحور كل الجدل والمحاورات المتعلقة بمشروع الدستور حول مسائل جهوية ومناطقية وحقوق ضائعة ومكتسبات لا تفريط فيها ومحاصصات وظيفية، وهي موضوعات موجودة أصلا، ولكن التركيز عليها يجعل ما عداها من القضايا ثانويا مثل مصدر التشريع ومدنية الدولة وحريات التعبير والاعتقاد والاختيار والمساواة بين الموطنين بصرف النظر عن عرقهم ودينهم وجنسهم، وبالتالي تصبح المادة السادسة التي تبتلع كل هذه القضايا، خارج أي اهتمام أو جدل، وهذا في الواقع عين ما جرى.

فكل المجادلات واللقاءات والمماحكات في المؤتمرات ووسائل الإعلام تدور جميعها حول الأقاليم الثلاثة دون التعرض للمادة السادسة التي تنسف فكرة ومفهوم الدولة المدنية، ولقد أتيحت لي فرصة المشاركة في ورشة عمل "صناعة الدستور في ليبيا" التي عقدت في مارس 2015 وكان ذلك حول المسودة الأولى، التي تتمدد فيها المادة الثامنة بثلاث فقرات، كل فقرة فيها تبتلع كل ما ورد في المسودة، وكان عدد الأوراق البحثية المشاركة تسع عشرة ورقة تتحدث عن الانتخابات وعن السلطة التنفيذية والتشريعية والمحاكم وحقوق المرأة والمجتمع المدني، ولم أجد من بينها ورقة واحدة – عدا ورقتي- تتعرض إلى المادة الثامنة، التي وجودها في المسودة يجعل كل القضايا التي تتحدث عنها تلك الأوراق لغوا لا معنى له، وهذا لاشك يعد نجاحا منقطع النظير في فن محاصرة الرأي العام بما في ذلك النخب بحزمة معينة من القضايا يحتدم حولها الجدل وتعلو فيها الأصوات ويتغذى منها النزوع الجهوي والمناطقي، وباستثناء بعض المقالات التي يكتبها الأستاذان سالم العوكلي وعمر الككلي لم يتطرق – في حدود علمي- أحد من النخبة إلى هذا الموضوع في الصحافة الليبية، وكأن ليس هناك ما يدعو للقلق أو تبصير الرأي العام الذي يجري تحشيده للاستفتاء في ظل حملة تحريض وتسعير للمشاعر الجهوية، وذلك بالتركيز فقط على قضايا تتعلق بالجغرافيا والإدارة والحساسيات المناطقية.

2- يؤدى انحصار الجدل والخلاف في موضوع الأقاليم الثلاثة فقط إلى إقناع قاعدة الاستفتاء من عامة الناس بأنه ليس هناك مشكلة في مشروع الدستور سوى أنه يحتوي على بعض الميزات والمكتسبات لأحد الأطراف الجهوية وأن طرفا آخر يغار من ذلك ويريد أن يسلبه هذه المكتسبات بقطع الطريق على الاستفتاء أو عن طريق إسقاط هذا المشروع بلا عند الاستفتاء عليه، ولاشك ان ترسيخ مثل هذا الاعتقاد الخاطئ في مجتمع يتميز بمكونات قبلية ومناطقية، يؤدي إلى التحشيد والتآزر العصبوي والإصابة بالعمى الجهوي من أجل الانتصار لهذ المشروع أو هزيمته، ولكن كما يبدو فإن تيار الإسلام السياسي يسود لديه شبه يقين بأنه في حالة إجراء الاستفتاء في ظل التحشيد والعمى الجهوي، فإن هذا المشروع سيمر، ولهذا فإننا نلاحظ أن هناك إصرارا مستميتا من جانبهم على ضرورة عرض المشروع على الاستفتاء ليس – في ظني- لأن ذلك مطلب ديمقراطي، بل لاعتقاهم بأنها فرصة تاريخية لن يجود بها مستقبل الأيام.

إذن في ظل ظروف بهذه الخطورة يجرى تغييب الوعى الوطني وإذكاء وتوظيف الانتماء الجهوي لاستغلاله في تمرير مشاريع سياسية وايديولوجية لا يمكن لها أن تمر في حالة وجود قدر من العقلانية والوعي الوطني، لأن عقلانية المواطنة تستطيع إدراك خطورة مثل هذا المشروع على وحدة الوطن وعلى حرية وحقوق المواطنة، لكن ذلك يقتضي- في نظري- توحيد خطاب النخب المهمومة بوحدة كيان الوطن وبحقوق وحرية المواطن لتبصير الليبيين بحقيقة هذا المشروع الذي يجري دفعهم للاستفتاء عليه وسط معمعة تسعير المشاعر والعمى الجهوي، ليكونوا على وعي – قبل أن يذهبوا إلى صناديق الاستفتاء- بخطورة إقراره على حقوقهم وحرياتهم في مختلف ديارهم، وعلى ما تبقى من أوصال وطنهم الذي تحاصره الأطماع وتشده وتجذبه من كل اتجاه.