Atwasat

فزاعة الإجماع في وجه الاختلاف

سالم العوكلي الثلاثاء 15 يونيو 2021, 09:26 صباحا
سالم العوكلي

"في كل كتاباته حول الموضوع يتجنب الدكتور الهادي بوحمرة الإشارة إلى علاقة "حكم الأغلبية" بحقوق الإنسان. وهذه نقطة تعارضنا المفصلية معه.". هذا ما يختتم به الكاتب عمر الككلي مقالته "التبصر والتبصر المضاد" في صدد رده على مقالة الكاتب الهادي بوحمرة "إلى الاستفتاء" المنشورتين بموقع بوابة الوسط*، وبغض النظر عن تفاصيل المجادلة، إلا أن الاختلاف أو الحوار حين يبتعد عن مكونه المعرفي المشترك يتحول أحيانا إلى سوء فهم.

الاختلاف بين الككلي والهادي اختلاف بين كاتب يرى أن باب الحقوق في الدستور، وحرية التعبير والاعتقاد خصوصا، هو أكثر ما يهمه ككاتب ومفكر ومبدع، وأن الدستور نص قابل للنقد كأي نص لغوي، وبين الهادي الذي يكتب من مدخل قانوني منضبط ويرى أن الدستور في هذه الحالة نص منزل علينا أن نؤمن به غيبا، وأن (الإجماع) كمنهج فقهي يحكم على مدى صوابيته، دون حتى إفساح المجال للجدال حوله أو انتقاده لأنه يعتبرها نوعا من الوصاية على الحشود المعنية به، مع أن من ضمن العملية الدستورية التي تؤسس لدولة مدنية أن تعُرض مسودة الدستور للنقاش المجتمعي قبل أن تقدم كمشروع نهائي، وهذا ما لم يحدث في هذه الحالة، ومن القاعات المغلقة داخل وخارج ليبيا انتقل مشروع الدستور مباشرة لقاعة مجلس النواب المغلقة.

أستغرب أن الهادي؛ الذي يتمتع بمرجعية قانونية، لم يلاحظ أن صياغة مشروع الدستور كانت رديئة بشكل كبير، وهذا هو المعيار الأول لأي دستور أو نص قانوني، وحتى فريق المعايرة الذي درس وتبصر في هذا المشروع مادة مادة وقسّمه إلى عدة مداخل للمعايرة، من ضمنها الصياغة، أعطى الصياغة درجة صفر، وكثير من القانونيين الليبيين انتقدوا هذا الجانب، وهو جانب أساسي لأنه سيربك فيما بعد تفسير المواد وفق صياغاتها غير الدقيقة والغامضة، ويربك المحكمة الدستورية العليا إذا ما أرادت أن تبت أو تتبصر في أي خلاف دستوري مستقبلي. وللأسف لم يكن من ضمن لجنة الصياغة أديب واحد متمرس، أو مختص في فلسفة القانون كي تُضبط الصياغة.

القوانين وجدت مع فجر البشرية، بكل ما لها وعليها، من أجل أن تضبط الزحام البشري وتديره وفق مبدئي الثواب والعقاب، غير أن الدساتير جاءت من باب التأكيد على الحقوق الإنسانية للجماعات والأفراد، وكي تضع القوانين تحت مظلة دساتير هاجسها الرئيسي حقوق الإنسان التي تتناسب طرديا مع مدى تحضر الإنسان وترقيه، وهذا هو الفارق بين أن تقرأ دستورا من مدخل قانوني ترى أنه سيضبط الدولة بغض النظر عن مضمون هذه الدولة، وأن تقرأه من مدخل إبداعي شاغله الأساسي هو الحريات والحقوق، لأن الدستور نص إبداعي قبل أن يكون قانونيا، وقد وصفته في مقالة سابقة بقصيدة الشعوب: "كتبت أكثر من مرة محتجا على كتابة الدستور الليبي في هذه الظروف، فدستور الشعوب هو قصيدتها الشعرية، أو نصها النثري المبدَع؛ الذي مجازه الأصيل عدالة، واستعارته الكلية حرية. ولأن القصيدة لا تكتب إلا بمزاج رائق وبحضور ذهني وروحي مكتمل، فالدستور الذي كان إحدى وقدات البشر الشعرية لا يمكن أن يكتب إلا في ظل توافق وسلم اجتماعي، ولا يمكن أن يصاغ في ظل هذه الأجواء المضادة للخيال وللحلم كمنطلقات أساسية لتدشين مدونة تنقل الأرض التي نعيش عليها من كونها مأوى إلى كونها وطناً".

نحن نرى الآن دولا تحكمها دساتير، مثل هذا المشروع، تمكن منها الاستبداد من جديد لأنها لم تعرض للنقاش المجتمعي، أو لأنها تواطأت مع أيديولوجية مهيمنة، أو كتبت في ظروف غير ملائمة، فكانت مجرد إجراء تشريعي منفعل ومستعجل وثرثار لإيقاف الصراعات المحلية وإرضاء الأطراف المتصارعة، أو نتاج لصراعات إيديولوجية تتقاتل على الأرض بينما ممثلوها يحررون لها دستورا، وهذه الدول التي تحكمها هذه الدساتير، كما في دول أفريقية عدة، مازال رئيس الدولة لا يتنحى إلا بحرب أهلية، لأن الدستور فيها كان مجرد وسيلة لتسكين هذه الصراعات مؤقتا.

من حق أي مواطن له هوى في الدستور أن يدافع عن هواه بشدة، وينتقد الدستور إذا كان لا يلبي هذا الهوى/ المطلب، ونحن ككتاب عانينا كثيرا من القمع فيما يخص حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الاعتقاد ، وكان هذا هوانا دائما الذي استنزفنا فيه حبرنا حالمين بأن تتحول هذه الأهواء يوما لإلزام دستوري تنبثق عنه قوانين تضمن هذه الحريات، وسنظل ندافع عنها حتى لو أقر هذا الدستور بأغلبية وأصبح نافذا، حالمين بتعديلات دستورية تعزز هذه الحقوق ، لأن هذا كان الديدن منذ أن كانت ليبيا بلدا شمولية لا دستور فيها ، ومنذ أن كان الحديث عن الدستور أو ذكر المصطلح محرما بل ومجرما، والككلي نفسه وأصدقاؤه المثقفون دفعوا ثمنا باهظا من أعمارهم في السجن بسبب الدفاع عن هذه القيم، فما يطرحه الككلي لم يكن جديدا، ولم ينبثق بعد سقوط النظام، بل من سنين طويلة، ومراجعة كتاباته في المقالة والأدب والنقد تؤكد هذا الهاجس القديم، وحتى داخل السجن كانت كتاباتهم ومدوناتهم السرية وحواراتهم حول هذا الشأن، وأستغرب كيف يتهم الهادي هذا الإلحاح المزمن بكونه استبدادا "الاستفتاء حق للمواطن وفق الإعلان الدستوري... ولا يمكن تجاوزه بحجة توقع الرفض... من يملك الرفض هم الليبيون، وعبر الصندوق... ولا يمكن أن يتم إفساد مسارات بناءً على توقعات... بهذه الطريقة يمكن إفساد كل شئ، من قبل من يرون أنهم يفكرون أفضل من غيرهم... وهذه صورة من صور الاستبداد..".

المشكلة أن الككلي توقع الموافقة ولم يتوقع الرفض، وقد تأتي الموافقة هنا من جانب انتهازي من بعض التيارات التي سيطرت على صياغة الدستور وكتابته وفق أيديولوجيتها التي فشلت في ثلاثة انتخابات، لأن الناس وصلوا إلى قدر كبير من الإحباط واليأس وهم، كما الهادي، يرون من المهم أن نشرع في بناء الدولة دون التبصر في كيفية هذه الدولة أو مضمونها الحقوقي المنتهك علنا في مشروع الدستور. من جانب آخر حين يقول الهادي "من يملك الرفض هم الليبيون" فإنه بالتأكيد يقصد كل الليبيين، بمن فيهم الأطفال والفتية من الجنسين الذين مازالوا لا يحق لهم الاستفتاء الآن، غير أن الدساتير تكتب من أجل الأجيال اللاحقة، وليس من أجل حل مشاكل أو تحقيق رغبات الجيل الذي كتبه أو انعكاسا لأزمته، والتفكير في تلك الأجيال من مسؤولية الوعي الراهن بما يتطلبه مستقبلهم.

مقالات الهادي تتسم بغنائية عالية ومونولوج داخلي لا يرغب في التشويش عليه وهو منطلق إلى هدفه، ما يجعله يتهم كل من يختلف معه بعدم التبصر أو الاستبداد، ويؤكد هذه الغنائية مدى اليقين الذي يكتب به عن رؤى ستظل محل جدل طالما أن الإنسان يسعى للرقي بحياته ونوعيتها. وهذا المونولوج ما يجعل حججه تظهر وكأنها مصفحة ضد أي خدش، أو كما يصفه الككلي "يعيد، تقريبا، نفس الحجج، وإن بشكل منقح. وأنا أفعل الشيء ذاته في ردودي عليه. مع ملاحظة أنني أرد على مقالاته وحججه بشكل مباشر، وهو يرد على مقالاتي وحججي بشكل ضمني."، فالهادي يحاجج المختلفين معه دون حتى أن يذكر أسماءهم أو يرد عليهم مباشرة، في الوقت الذي يذكره الككلي مرارا بالاسم مرفوقا بالصفة أحيانا، ويطري كتابته بكل تواضع العارف محددا بدقة نقاط الاختلاف معه، وهذا هو الفارق بين من يدخل الحوار من جانب ثقافي تفكري مفتوح للحوار، وبين من يدخله من جانب دوغمائي تجهض فيه الإجابات المسبقة أي مشروع للسؤال أو التساؤل.

رأي الأغلبية أو (الإجماع) هو رد الهادي على كل انتقاد لفحوى هذا الدستور، ولا ننسى أن الكثير من نظم الاستبداد لاقت هذا الإجماع المحتفى به، من هتلر الذي جاء عبر الصندوق، إلى كاستروا الذي كان يعدم معارضيه عبر موافقة الأغلبية، إلى القذافي الذي حكم ليبيا أربعة عقود بقوانين مصمتة ولم يفعل شيئا لم يحرر له قانونا، وكانت الأغلبية الساحقة تهلل له وتحتشد في كل مكان يحط به وتحرر له وثائق المبايعة بما يشبه الاستفتاء غير الرسمي، خصوصا في العقد الأول من حكمه، حين كان يقوض كل مقومات الدولة المدنية والأغلبية تهتف وتغني "يا قايد ثورتنا على دربك طوالي" وكانت نخب صغيرة تنتقد هذه التوجهات، وهي من دفعت الثمن في النهاية بين الإعدام والسجن والمنفى. فمن واجهوا النظام السابق منذ بدايته ــ من طلاب يدافعون عن اتحادهم الطلابي، أو مثقفين يدافعون عن حرية التعبير والاعتقاد والتجمع السلمي، أو نخب سياسية تدافع عن حق الانتماء لحزب ــ كانوا يشكلون ضميرا ثقافيا يدافع عن مبادئ الحقوق والديمقراطية، وإذا هزموا في تلك الفترة من قبل الأغلبية التي كانت تبايع السلطة وقوانينها ومدوناتها الدستورية أو شبه الدستورية.

فهذا لا يعني أنهم كانوا على خطأ أو مستبدين أو أوصياء، لكن ما حركهم مسؤولية الوعي وإملاءات المعرفة التي شئنا أم أبينا ارتبطت بالنخب المثقفة في كل مكان وزمان، وحين نتحدث عن القيم الجمهورية وما تمخض عنها من دستور فرنسي كان يعدل باستمرار وصولا إلى دستور 1958 ، فالهادي يدرك أن خلف هذه القيم وهذا الدستور مرحلة من التنوير الذي ارتبط بأسماء لم تستسلم وقتها لهوى الأغلبية. وحتى المجتمعات الحديثة التي تبنت مبدأ الأغلبية تتحول فيها الأقلية إلى معارضة حرة وفاعلة تتمتع بكل الحقوق التي يضمنها الدستور.