Atwasat

التفكير البعدي والخبرة

سالم العوكلي الثلاثاء 08 يونيو 2021, 10:22 صباحا
سالم العوكلي

وأنا أطالع الآن تفاصيل تأسيس الدولة الليبية في كتاب أدريان بيلت، أجد نفسي في قبضة ما وصفه الكاتب عمر الككلي بــ"التفكير البعدي"، أو من الممكن، عاطفيا، ربط هذا النمط من التفكير بأداة تفيد التمني (وإن جاءت غالبا فيما يفيد التحسر) وهي أداة (لو) وأجد نفسي غارقا في افتراضات: لو حدث كذا ما كنا الآن كذا، لو لم تُضمن هذه المادة في الدستور لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، لو أن نظام الدولة الفيدرالي استمر لما كانت الدولة مهيأة أو معرضة لانقلاب عسكري مغامر أستولى عليها في 24 ساعة، وصولا إلى ما يردده البعض لو كان للملك وريث عرش لما حدث ما حدث... إلخ. تشتط هذه الـ (لو) في أدبيات التمني البشري الكوني حين قال أحدهم: لو أن أكاديمية فيينا للفنون قبلت هتلر طالبا عندها لأصبح رساما ووفرنا 50 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية.

التفكير البعدي والذي يوضحه الككلي من البداية بسرد طرفة ليبية عن لعبة الورق، ينقلنا إلى مسألة ألـ (لو) في الأحداث أو في التاريخ، وفراغها من المعنى، لأنها تفترض ما لم يحدث للبناء عليه، أو ما كان مستحيل الحدوث في ذلك الوقت وفق منطق التاريخ ويظل السؤال هل للتاريخ منطق؟ وسأتطرق لهذا المدخل النظري لما يمكن تسميته بأغلوطة (لو) في نهاية المقالة بعد عرض لب الجدل بين المقالتين المهمتين لعمر الككلي "التفكير البعدي"، ورد الكاتب جمعة بوكليب، تحت عنوان (نقد نقد التفكير البعدي) المنشور كلاهما في موقع بوابة الوسط، لأن حوارهما يقع في قلب فلسفة التاريخ، وإن كانت المساحة المتاحة لهما لا تسمح بان يتوسعا في هذا الموضوع الإشكالي والمعقد. وبالرغم أن التركيز في مقالة الككلي، ومن ثم مناقشتها من قبل بوكليب، على واقعة تاريخية محددة، وافتراض بعض السيناريوهات انطلاقا من المعطيات الراهنة آنذاك، لهذه المسارات البديلة: (لو) أن ما اقترحه "الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، بداية سنة 1965، على الفلسطينيين والعرب القبول بقرار تقسيم فلسطين الصادر عن هيئة الأمم المتحدة" تم تطبيقه. والإشادة به والتحسر عليه الآن يضعه الككلي تحت توصيف "التفكير البعدي" أو ما سماه "التفكير الاسترجاعي" أو "الاستعادي" الذي يُقيّم وقائع قديمة وفق نتائج لاحقة. هذا "الطرح استرجاعي، يزن الأحداث بما تمخض عنها من نتائج وليس أثناء جريانها واعتبار الظروف والملابسات التي تكتنفها. فأي حدث يكون، أثناء سيلانه، مرشحا لمسارات ونتائج متعددة وتحاول جهود الأطراف، الدافعة أو المقاومة، توجيهه إلى المسار المرغوب." كما يقر الككلي، ويجادل بوكليب في بعض استنتاجات الككلي ومدى دقتها أو وجاهتها نائيا عن قراءة الحالة الفلسطينة ضمن المرجعية الاستعمارية التقليدية باعتباره "في خانة مختلفة بل وشديدة الخصوصية والتعقيد" وهذا تحليل دقيق للمسألة، وربما من قلب هذه الفكرة نبع اقتراح بورقيبة الذي أدرك أن هذه الخصوصية للحالة الاستيطانية تجعلها مختلفة عن الحالة التونسية التي يخبرها جيدا، أو كما يُفصِّل بوكليب : "أن عمر لم يأخذ في أعتباره الفارق في الحالتين الفلسطينية والتونسية استعمارياً. فاليهود لم يأتوا إلى فلسطين بجيش مسلح. وأن أراضي تونس، في الفترة الاستعمارية، كما كان الحال في فلسطين لم تكن مقسمة بين عدة دول: غزة تابعة لمصر، والضفة الغربية تحت الأردن. أضف إلى ذلك، أن اقتراح الرئيس التونسي الراحل بورقيبة جاء في عام 1965، أي بعد تحرير كل التراب التونسي من المستعمر الفرنسي ومعمريه، ونيل تونس لاستقلالها، وليس قبل. والمعنى أن الاقتراح لم يأت من فراغ، بل هو وليد تجربة الرئيس بورقيبه واقعياً في النضال ضد الاستعمار، ورؤيته الخاصة لطبيعة الصراع الفلسطيني اليهودي. ومن هنا مبعث أهميته. ويمثل رؤية متميزة سياسياً، وتفكيرا سياسيا خارج الصندوق".

بالعودة إلى مركز اهتمام المقالة الأولى وتنويعا عليه، سنعتبر ما كان يحدث أو يقال، في ذلك الوقت، يقع في نطاق العمل السياسي الإجرائي فقط، والآن نقرأه في إطار السياسي عندما أصبح في إطار التفكر في التاريخ، والفارق كبير بين الرؤيتين، لأن السياسة يعمها الضباب، وفي التاريخ ينقشع الضباب أمام المؤرخ، ومع الوقت يكتسب مع لذة السرد توسيعا دراميا لنطاقه، وهذ البعد الدرامي يجعلنا ننغمس في تقنية الفلاش باك فنعود للبدايات من خلال ما انتهت إليه النتائج، ونحكم على مدى وجاهتها أو خطئها من خلالها، كما يحدث مع كلمات بورقيبة التي تبدو الآن صوابا. في المقابل أنور السادات طبق الفكرة واستعاد بها الأرض المصرية المغتصبة، ومن النتائج نقيّم الآن خطوةً كانت مخونة في وقتها، غير أن قراءة أخرى ربما: تقول (لو) لم يوقع السادات اتفاقية السلام ربما كان للتاريخ مجرى آخر قد تكون نتائجه أفضل للقضية ومحيطها العربي . وللنجاة من (لو) المقلقة، يبدو أننا لا نملك سوى الركون إلى رؤية تولستوي الروائية لروح التاريخ الذي لا تصنعه إرادات الأشخاص وعقولهم فقط، لكن التاريخ يصنع نفسه بنفسه، خاضعا لقوانينه الخاصة التي تبقى مع ذلك مبهمة للإنسان.

وفي جميع الأحوال لن نفهم هذه الفكرة إلا حين نغوص في/ ونفهم شخصية بورقيبة ونمط تفكيره الذي طبقه قبل ذلك، بشكل أو آخر، على نضاله من أجل تحرير تونس، وأيضا نفهم أن الحبيب بورقيبة كان في ذلك الوقت الحاكم العربي الوحيد الذي ينطبق عليه وصف (المثقف) وتحديدا المثقف الفرانكفوني، وربما رؤيته المبكرة والجريئة للحل نبعت من طبيعة هذه الثقافة أو الفكر الذي عينه ترى أبعد مما يرى السياسي التقليدي، أو الثوري الغنائي، أو المقاوم المتحمس لوجده النضالي.

بالعودة إلى محاولة فهم المصطلح الذي جعله الككلي عنوانا لمقالته (البعدي) فسنجد أن المقابل لها لغويا واصطلاحيا (القبلي) أو التفكير البعدي مقابل التفكير القبلي، ومن هنا ربما يتضح الفرق الذي يجعل من إعادة قراءة واقعة تاريخية منزعا معرفيا إذا ما أدرجنا هذه العودة ضمن فلسفة التاريخ. يذكر في قاموس كيمبريدج أن الإقرار القبلي تحليلي والإقرار البعدي تركيبي حيث يستخدم "المصطلحان 'قبلي' و'بعدي' أيضا في التمييز بين طريقتين في اكتساب شخص مفرد مفهوما أو فكرة ما. المفهوم أو الفكرة البعدية أو الإمبيريقية مفهوم أو فكرة مستمدة من الخبرة، عبر عملية تجريد أو تعريف إشاري. في المقابل، المفهوم أو الفكرة القبلية ليست مستمدة من الخبرة بهذه الطريقة ولا يشترط بالتالي تعيّنها في أي خبرة"*. بهذا المعنى، وأعتذر عن التبسيط المخل، التفكير القبلي الذي يضعه بعض الفلاسفة في خانة الميتافيزيقيا هو الذي وضع بورقيبة في خانة (الخيانة) للقضية، والتفكير البعدي هو الذي نقله إلى خانة الإشادة، مثلما نقل هذان التفكيران السادات من خانة الخيانة إلى البطولة، لأن الحكم الثاني في كل منهما جاء من منطلق تركيبي وليس تحليلي ومن خلال الخبرة التي تراكمت فيما بعد.

بعيدا عن عنت المفاهيم، سأنهي بافتباس أثير لدي يتعلق بنوع آخر من التفكير البعدي، عكس ما طرحه الككلي، وهو الوصول بواقعة، أو قول قديم كان محل إشادة في وقته إلى إدانته بقراءة بعدية بعد فترة من الزمن، كما حدث في ليبيا بعد فبراير من الحكم على وقائع أو أشخاص أو أقوال كان لها ما يبررها في حينها أو تحت ظروف ضغط مختلفة، أو خلال رؤية غائمة. يقول ميلان كونديرا في كتابه (الوصايا المغدورة) ترجمة معن عاقل: "الإنسان هو من يتقدم في الضباب، لكنه حين ينظر إلى الوراء ليحكم على أناس الماضي، فإنه لا يرى أي ضباب يغمر طريقهم. ومن حاضره الذي كان مستقبلهم البعيد، سيبدو له طريقهم واضحا تماماً ومرئياً في كل امتداده. عندما ينظر الإنسان إلى الوراء، يرى الطريق، ويرى الناس الذين يتقدمون، يرى أخطاءهم، لكن الضباب لم يعد موجوداً.... وقد يتساءل المرء: من هو الأشد عمى؟ مايكوفسكي الذي لم يكن يعرف، وهو ينظم قصيدته عن لينين، إلامَ ستفضي اللينينية؟ أم نحن الذين نحاكمه بالعودة عشرات السنين إلى الوراء من دون أن نرى الضباب الذي كان يغمره".

ولكن إذا ما قرأنا قول الحبيب بورقيبة، بعد 56 سنة، قراءة بعدية تركيبية فقد نكتشف أنه الوحيد آنذاك الذي كان خارج ضباب اللحظة، أو "خارج الصندوق" كما ذكر جمعة بوكليب. دون أن نغفل أهمية الحدس في إنتاج المعرفة، الذي يعتبره أوكام "الهالة الغامضة المرتبطة بكل إدراك معرفي حسي-فكري، ونحن لا ندري به صراحة إلا استعاديا حين نأخذ في الاعتبار الشروط الضرورية للذاكرة الفكرية".

_______________________________
* قاموس كيمبردج للفلسفة. تحرير: روبرت أودي. ترجمة: نجيب الحصادي