Atwasat

ما لا يقال: كوكتيل لغة وسياسة

عبدالواحد حركات الأحد 16 مايو 2021, 04:15 صباحا
عبدالواحد حركات

الكلمات تزرع بذور النجاح أو الفشل في عقول الآخرين..!
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يعيش، ليس فقط في العالم المحسوس - لا أقول الحقيقي أو الواقعي، لأن الحقيقة نسبية وقد تكون غير مدركة، والواقع له أبعاد أعمق وأكبر من الإدراك- بل في عوالم متعددة ومتنوعة، خفية وماورائية، خيالية وافتراضية، ممكنة ولاممكنة..!.

مفاتيح كل عوالم الإنسان كلمات.. فالإنسان كوكتيل كلمات.. ولا يمكن له أن يعبر عن كينونته ووجوده إلا بالكلمات، ولا يمكنه البتة الانفصال عن الكلمات، فهي فكره وضميره وميزته، فالكلمات هي كود تفرد وتميز الإنسان عن باقي الخلائق، وبدونها سيكون مجرد غوريلا صلعاء..!.

الكلمات تحرك وتتحرك، توحد وتفرق، تداوي وتجرح، تسيء وتبهج، تشعل البعد وتعطر اللقاء، تحيي الأمل حيناً وتصنع الفشل أحياناً أخر، وحين تجتمع الكلمات وتتحمل بالمعاني تصنع اللغة وتكونها، واللغة فقط هي التي تصنع الأشياء، أي تحدد ماهياتها وتجعلها مدركة، وهي انعكاس للواقع ووسيلة خلق أو تحويل وتحوير له، فاللغة نظام معقد وتراكبي وتراكمي من الرموز والعلامات والإشارات والأصوات، وهي ذاتها العلاقات التي تربط الرموز والعلامات والإشارات والأصوات فيما بينها، فاللغة حالها حال الحياة: نظام وليست جسدا..!.
اللغة لا تنشأ من الفكر، فبدونها لن يوجد فكر..!.

علمياَ.. يرجح احتمال تزامن ظهور اللغة مع ظهور إنسان الهومو سابينس قبل مئتي ألف سنة، وأنها مكون محوري في السلوك البشري، فاللغة والسلوك البشري متداخلان يعتمد أحدهما على الآخر، ولا يتواصل البشر بالكلمات فقط باعتبارها جسد اللغة المحسوس ولبناتها، بل باستخدامات واسعة وممتزجة للعناصر والخصائص الإيمائية والسياقية والسيميائية، فلا يحتاج الإنسان فقط إلى معرفة الكلمات ومعناها ودمجها وفق تراكيب وقواعد دقيقة، بل يحتاج إلى تمثل الآخر وإدراك ما يعبر عنه وكيفية التعبير، مصحوباً باستخدام استراتيجيات وإيماءات وظيفية وأفعال اتصالية تعبر بمجملها عن نوايا التفكير المشترك في شيء محدد..!.

وحدها اللغة.. تحدد ما يمكن أن يفكر فيه الإنسان وطريقة تفكيره فيه، فهي ليست مجرد أداة مبتكرة تلعب دوراً رئيسيا في حياة الإنسان، بل هي تمثل، بطريقة ما، الإنسان ذاته ووجوده الموضوعي، وهي مؤسسة على افتراض وجود الشيء الآخر المراد إدراكه والتفكير فيه أو التعبير عنه أو التواصل معه، واللغة ذات بعد اجتماعي يتمثل في عملياتها المعرفية التراكمية والمتسلسلة، فهي تربط العقول والأفكار وتنشيء شبكة معلومات مشتركة ومتناقلة، ويمكن اعتبارها فضاء تواصليا لا نهائيا..!.
اللغة جسر تواصل غير محدد بأوزان واتجاه ..!.

الوظيفة التواصلية للغة تؤدى بديناميات وعمليات لغوية واستراتيجيات براغماتية وخيارات دلالية وتكتيكات بلاغية فعالة ومتقنة، داخل هيكل فضاء معرفي بافتراض وجود معلومات ضمنية مسبقة تدعم العملية التبادلية وتحقق هدف التواصل، فتظهر وراء تنفيذ الأفعال والعمليات التواصلية كفاءة وجودة اللغة كنظام مرجعي للفكر والسلوك، وكأداة تعبير وتمثيل للأفكار والمعتقدات والممارسات الفكروية لكونها متغلغلة ومتجذرة بعمق في السياقات الاجتماعي والتفاعلية. فاللغة موجدة للبيئة وطريقة التفكير ونتيجة لهما في ذات الآن، وصانعة وواصفة للواقع ومنعكسة عنه أيضاً، فانعكاسية وتبادلية اللغة أساليب بواسطتها يصبح الواقع مدركا ومفهوما..!.

بقدر ما يعيش الإنسان الحياة، الحياة أيضاً تعيشه..!.
ينتمي الإنسان لأبعاد وجودية متعددة، وبقدر انتماء اللغة له، ينتمي هو أيضاً لها، وإن عدت اللغة سياسة وجود للإنسان، فالسياسة هي لغة بطريقة ما، فالعلاقة الدورانية والانعكاسية والمرآتية بين السياسة واللغة مؤكدة ولا جدال فيها، ولا يمكن اعتبار اللغة نظامًا خارجيًا عن السياسة نفسها، أو عزلها عن العمليات السياسية التي تكون اللغة ذاتها أداة إنجازها..!.

الحقيقة.. هنالك عجز مفاهيمي واصطلاحي لتحديد معنى اللغة السياسية لعدم وجود اختلاف حاد بين محتواها ومحتوى اللغة عموماً، وبرغم التوافق على اعتبار اللغة السياسية لغة قطاعية إلا أنه لا يمكن اعتبارها لغة خاصة أسوة باللغات الخاصة المتداولة في مجالات أخرى، وكذلك لا يمكن اعتبارها هياكل لفظية تستخدم في مجال السياسة حصراً، أو التركيز على تأثيرها ومشاركتها في إنشاء وتسيير العمليات السياسية، لتعدد وظائف الكلمات في مجال السياسة وتغير أوضاعها الدلالية بشكل جذري وفق الأيديولوجيات التي تحملها أو حملت بها..!.
يتغير الفكر اعتمادًا على الكلمات التي تعبر عنه..!.

يفترض ضمنيا أن يكون الفكر السياسي هو بوتقة السياسة ولغتها. ولخدمة أهداف الفكر تستخدم اللغة كأداة تأثير على الأفراد، وتكون شكلا لغويا ذا خصائص أيديولوجية وظيفته التثبيت السياسي للأفكار وتحميلها بدلالات محددة، فالسياسة ليست مجالا مؤسسيا، بل هي أبعد من ذلك بكثير، لكونها واقعا اجتماعيا متماهيا في كل المجالات ومتداخلا معها..!.

السؤال.. هل يوجد في ليبيا ساسة وفكر ودلالات ومفاهيم ورؤى... إلخ ..!؟.