Atwasat

تجديد الخطاب الديني لا تسطيحاً له.

رافد علي الخميس 13 مايو 2021, 11:59 صباحا
رافد علي

يقول علماء الدين في الإسلام أنه لا أهلية لمسلم بأن يتحدث في شؤون الدين بدون "شهادة" من إحدى المؤسسات الدينية التقليدية، باعتبار أن هذه المؤسسات هي المسؤولة عن فهم أغلبية المسلمين لدينهم اليوم بكل ما فيه من سلبيات طافحة في مشهدنا الإسلامي، كالتشدد والتطرف والعزوف عن إصلاح خطاب ديني يعاني من إشكاليات كثيرة، وبالتالي ستكون هذه المؤسسات التي تُنصب نفسها مرجعاً دينياً هي المسؤولة عن الواقع الذي يحتاج إلى تغيير بحكم كل المعاش من عنف مادي، وتوتر نفسي وذهني بسبب إكراهات العصر. المثير في الأمر أن علماء ديننا الحنيف حينما يسلبون العباد أهلية الحديث والنقاش في شئون دينهم بهكذا نهج أو أسلوب فإنهم يتخندقون في محراب الكهانة، رغماً عن إصرارهم برفض وجود حيز لفكرة الكهانة أو الكهنوت في الإسلام بشكل مفتوح، بما يجعلهم يناقضون أنفسهم من خلال ظهورهم للعامة بهكذا عقلية إقصائية للمسلم قبل الغير.

فللكهانة عموماً تاريخ غزير في حياة عرب قبل الإسلام، وبرزت منهم أسماء كُهان وعرافين أمثال العرافة طريفة التي كانت في قبيلة كهلان بن سبأ، والتي تنبأت بانهيار سد مأرب. كما اشتهر عمرو بن لحي ككاهن، وهو الذي أمر سيد قومه بضرورة إحضار الأصنام لمنطقة تُهامة، ودعوة العرب لعبادتها. واشتهر أيضاً كاهن بني أسد، عوف بن ربيعة بن عامر، وكاهنة بني غنم، أحد أفخاذ بني حدس، وهي الشهيرة بثني قومها عن قتال جيش النبي المصطفي يوم غزوة مؤتة. الكهنوت مترسخ في التاريخ العربي بمنطقة شبه الجزيرة وانطلاقا من تاريخ الشعوب السامية، ولعل هذه الأُلفة مع وجود الكهانة ومعرفة اقترانها بالنبوءات، لم يحل دون ادعاء النبوءة من قبل البعض ضمن أحداث الردة، فالأمر لم يكن معقداً او بالأمر الخارج عن المألوف في حياة العرب كون الكهانة كانت معروفة بطرائقها ووسائطها في التواصل مع الغيبيات. مسيلمة الكذاب مثال تاريخي وتقليدي في هذا الصدد. فالكاهن كان مرجعية الناس والقبيلة، ولا شاغل للناس إلا طاعته واتباعه، فهو حكيم السلم، وقائد الحرب، وليس لأحد أن يأخذ دوره إذعاناً له ولسلطانه الروحي.

هذه العقلية الإقصائية للكاهن، أو رجل الدين المبنية علي الكهنوت واللاهوتيات فيه ما عادت تجدي اليوم لإسكات الإنسان المعاصر المتسلح بالعلم وتقنياته، والذي صارت له جرأة على طرح الأسئلة بصوت عالٍ أكثر من أي وقت مضى. بات من الأجدى لعلماء ديننا الحنيف أن يتفاعلوا أكثر وبروح رياضية مع من هم خارج أسوارهم وحلقات درسهم، وعليهم أن يستوعبوا أن فكرة الأجوبة الجاهزة منذ عصور ما عادت صالحة حتى للاجترار أحياناً رغم ثقافة الـ Take away، ولا عادت هذه الأجوبة الجاهزة مقبولا بها على أساس الهيبة
الروحية والتبجيل للـ "زي الديني" أو العمامة.

ليست القضية هنا دعوة للتسطيح أوهي نداء لغوغائية دينية. فتسطيح الدين قد جر على الخطاب الديني المعاصر ويلات الهزلية كما يرى مازن المعولي في مقالته "أسس الخطاب الديني بين التشدد والتسطيح" ، التي ينادي فيها بضرورة تجديد الخطاب الديني من خلال إسقاط العلوم الإنسانية والتجريبية على مصطلحات العقيدة والأصول بما يجعل الخطاب يحقق قبولاً أكثر عقلاً وقلباً، وسيكبح ظاهرة الإلحاد المنتشرة التي علي ما يبدو أنها تتجاوز حالة أن تكون موضة أو تقليعة. فالخطاب الديني بحاجة لبث روح جديدة فيه، والأجوبة للسؤال المطروح يجب أن تكون مقنعة بدلا من التعويل على الإذعان المطلق في جزئيات لا تستحق.

من القضايا المثيرة في قضية إصلاح الخطاب العربي عموماً، والديني بشكل خاص هنا، هي أن دعوى إصلاح الخطاب الديني تأتي غالباً من خارج الصف الديني بكل تفرعاته، وتقف المؤسسة الدينية بمعظم بلداننا، كوزارات الأوقاف أو الأزهر أو في قم، كمرجعيات دينية، رافضة هذه الدعوات، مالم نقل أنها لا تُعيرها أي اهتمام حقيقي حتى في حالات الحملات المسيسة ضد هذا الخطاب بالذات. ولعل حملات الإدارة الأمريكية زمن بوش الابن بعد هجمات مانهاتن مثال بارز في هذا الصدد، أو حتى ضمن تاريخ الحكومات المصرية المتعاقبة تاريخياً بصدد الضغط على الأزهر تشير لحصول نتائج لا تتعدى الهدف السياسي المحدود. لقد حاولت الحصول على إجابة جامعة وشافية من مصادر مختلفة تشرح لي هذا العزوف المؤسسي في الصف المحافظ للتعامل مع أزمة الخطاب الديني عموماً فلم أفلح، لكنني بت أجزم، من خلال تجربتي المتواضعة، أن المدرسية في الدين أضحت صارمة المنهج، بل وتضفي القدسية على رجال تاريخها لتنتهي بنا الأمور والأحوال أخيراً لأقفاص دُغمائية منحازة لإرثها الفكري والمعرفي بشكل يوازي حالة إيمانها، فظلت مقاصد الدين مركونة جانباً، وهمدت بالتالي تباعاً الروح المجتهدة فينا كمؤمنين بهذا الدين الحنيف. محمد شحرور بقراءته الجديدة كمشروع فكري، لم يهتم به الأزهر ولا قم، بل لم نشهد حوارية ناضجة ومفتوحة تلفت الانتباه إليها، لأن الكهانة ظلت في الصومعة حريصة على ما حصدته من مكانة و"بريستيج"، وغنائم ربما.

تاريخ الكهانة العربية يظل شاهدا آخر على كهانة الشعوب السامية بالمنطقة، رغم أن البداوة وقحط الصحراء وتجزؤ المجتمع العربي قد أضعفاها كظاهرة دينية، وازداد ضعف الكهانة بشكل أعمق بعد ظهور رسالة الإسلام التي رسمت حداً فاصلاً بينها وبين النبوة. فالمصطفي عليه السلام، كرسول، عزز صلات تواصله مع الله، وإن كان أقل من سيدنا موسى عليه السلام، في حين كانت الكهانة العربية بشكل كبير قد لجأت عبر تاريخها لخلق وسائط عديدة بيها وبين الرب، مما جعلها تفقد الكثير من مصداقيتها في قضايا التوحيد بشكل عام، لانها تجعل "طرائق الكهانة العربية تظهر كبدائل للوحي"* التي جاء الإسلام ليحدد طريقه العقائدي ضمن تلاقح حركتي تاريخ أتباعه وفكر مدارسه، ضمن مسيرته الحضارية الحافلة بكل شئ، فلقد تعزز الحد الفاصل بين الكهانة والنبوة عند العرب حينما انتقلوا من البداوة إلى الحضارة، وبالتالي من القبيلة إلى الملكية*، والتي فيها يشكل الخليفة مع زبانيته كل المرجعيات كما يرى توفيق فهد في الكهانة العربية قبل الإسلام.