Atwasat

نهاية ملكة

الهادي بوحمرة الثلاثاء 11 مايو 2021, 05:43 صباحا
الهادي بوحمرة

عند وصوله إلى قصر فرساي، بدأ يحلق في المبني ونوافذه؛ لعله يرى المرأة ذات الثياب ناصعة البياض التي يسمع أنها تظهر للسواح من حين لآخر.. رغم أنه على يقين أنها لن تتجسد إلا لمن يحن لعصرها، أو من هو على قناعة أنها ماتت مغدورة، وأنها كانت ضحية مؤامرة حاكها اليهود المرابون في فرنسا وانجلترا مع دول تراكمت لديها ضغائن ضد مملكتها؛ وبالتعاون مع رعايا مقهورين لم تعد تعنيهم عواقب الأمور…

جذبه سحر البناء وجمال حدائقه، وبدا له الترف والبذخ الذي كان بلا حدود في هذا المكان. سأل نفسه: كيف لمن يسكن مثل هذا القصر أن يشعر بمن هو خارجه؟، كيف له ألا يشعر بأنه من طينة غير طينة بقية الشعب؟، كيف له ألا ينفصل عنهم؟، وكيف لنفسه أن تطاوعه بالتنازل لمن يحسبهم من العوام؟.. علينا أن نضع أنفسنا محل ملكة هذا القصر؛ لنشعر بما كانت تشعر به، فما يجعل الملوك مختلفين هي القصور التي يسكنون، وأقوال وأفعال البشر المحيطين.

إنها ملكة أرادت أن تتمسك بكل شيء، فخسرت كل شيء.. لو كانت عاقلة؛ لأخذت عبرة من تنازلات ملوك بلاد الجوار، ولجنبت فرنسا كثيرا من الدماء التي سُفكت، وكثيرا من دمار الفوضى التي عمت البلاد…

من كانت تحسبهم رعاعا، ظهروا لها في صورة وحشية، وعاملوها بالفعل معاملة الرعاع.. من هذا القصر المنيف إلى الرمي بالقاذورات في شوارع باريس. وكانوا قبل ذلك قد قذفوها بالفاحشة، وهي من يتحكم في شؤونهم.. يبدو أن الثورة بدأت في النفوس، منذ أن تجرأ الشعب واتهم حاكمة القصر بالزنا، وشكك في نسب ولي العهد.

ربما كان ذلك إفكاً؛ لنزع قدسية الملكوك من القلوب.. ربما كان من الوسائل التي تبررها المقاصد، ومجرد خطوة؛ كي تتحول في مجرى الأحداث من رأس يتحكم بكل شيء في البلاد إلى رأس مفصول عن الجسد، ويمكن أن يدوس عليه، أو يصفعه، أو يبصق عليه كل من هب ودب في هذه البلاد، سواءً كان طاهرا أو نجسا، ظالما أو مظلوما، وسواءً كان من أتباعها الأفاكين أو من أعدائها الحاقدين.

تحير في الفصل في سؤال طرأ على باله عن هذا الماضي الذي يعيد نفسه بين الحين والآخر: هل حرمان الناس من الخبز مقابل الغرق في الملذات أشد وحشية من فصل الرأس عن الجسد بهذه الوحشية؟، أم أن الوحشية لا تلغي الوحشبة، ولا تبررها، ولا يمكن لسويٍ أن يمتدح الوحشية، أيا كانت الضحية؟.

لا شك أن الفرنسيين اليوم يتأسفون لمصيرها، ومع ذلك يحتفلون بأيام المقصلة كعيد، وبالغوغائيين كأبطال، وبالوحشية كملحمة من ملاحم تاريخهم، ويتباهون بكل ذلك…

كانت طاغية، فتحولت إلى ضحية، كانوا ضحايا فتحولوا إلى طغاة أشد بربرية منها ومن أعوانها.. من يكسب في النهاية هو من يحوله الناس إلى رمز، ويتناسون عواره، فالشعوب تتذكر ما تشاء، وتتناسى ما تشاء.. تصنع أحداثا من الخيال، وتتغاضى عن أخرى.