Atwasat

ارسم حمامة ودعها تطير!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 04 مايو 2021, 12:05 صباحا
أحمد الفيتوري

[… كنا، باختصار، نواجه أعظم متحف فني، لما قبل التاريخ فى العالم كله. فقد كانت هنالك صور ذات ميزة جمالية عالية جدا: "كالصور التى بالحجم الطبيعي لنساء سافرات"، ولو كانت أية مدرسة فنية، فى أي عصر من العصور قد جاءت بمثلها، لكان ذلك دليل تفوقها وقوتها.
إن الفن التاسيلى، يساعدنا على تتبع الحياة الحيوانية، وبالتالي تتبع التقلبات المناخية، ومن ثم نعرف الكثير، عن ذلك الإمحال التدريجي، الذى تمخض عن هذه الصحراء القاسية.
لدينا هنا بعض الاكتشافات المهمة إذا، وهذه الاكتشافات تتيح لنا أن نفهم، ما حدث عبر ثمانية آلاف سنة، من تاريخ أكبر صحراء فى العالم - بل فى تاريخ الإنسان] …
هكذا تحدث "هنري لوت"، عالم الليبيات القديمة، مكتشف لوحات تاسيلى، فى كتابه عن هذا الاكتشاف.

فى هذه الأرض، التى ستصير الصحراء الكبرى، ظهرت اللغة الأولى للإنسان: الرسم، النقش على الحجر، لغة الوجود ومشكل الخلود، قبل أن تظهر فى أهراماته. وكان هؤلاء الرسامون هم من أسمتهم - فيما بعد - الإلياذة: سكان لوبيا، والذين ذكرهم هيردوت فى سفر تاريخه، بأنهم الليبيون الذين حاربوا القبلى، ريح الجنوب ولم يبق لهم أثر، والعقيب منهم سوف نراه فى قورينا - شحات الآن -، ينحتون التماثيل، ويتسفسطون فى المدرسة القورينائية، مدرسة مذهب اللذة وفيلسوفها أرسطيفوس، الذى ضارع ما وصل إليه أفلاطون، حسب رأي عبد الرحمن بدوي.

يعلق الشاعر الليبيى سعيد المحروق، على اكتشاف أول لوحات، رسمها إنسان قبل التاريخ : "إن لم يكن "جبرين"، صخرا من صخور تاسيلى، فهو عقرب أو سحلية أو عظاية، أو ضب من زواحفها. لذلك فحين ما حط "هنري لوت"، فى تاسيلى ليسلخ فيها ستة عشر عاما، لم يجد سوى "جبرين"، يدله على دروب المنطقة الوعرة، ويكتشف له المزيد من الكهوف، التى تعج بحضارة ما قبل التاريخ.

فيما بعد، أصبح كتاب "لوحات تاسيلى"، لمؤلفه "هنري"، من أهم كتب تاريخ ما قبل تاريخنا، بل ما قبل تاريخ الإنسان أينما كان، هذا ما يقوله المختصون، أما بالنسبة لى فلم يكن يهمني، كما لم يرسخ فى ذهني من "لوحات تاسيلى" سوى لوحة واحدة: إنها "لوحة جبرين". وعلى الرغم من أنها، تشترك مع بقية اللوحات، فى كونها - نقشا يعود إلى ما قبل التاريخ، فإن أحدا لم يرسمها…".

إن "لوحة جبرين"، هذه اللوحة التى ستبدو اللوحة المؤجلة، أو لوحة الذاكرة المثقوبة، وإن شئنا فستكون هي اللوحة، التى ترسمها نساء وعواجيز "جالو" و "غدامس "، أقدم واحات الإنسان، فى الصحراء الكبرى، على الأطباق والقفف والمفارش "الفته"، وغيرها مما صنع من سعف النخيل، وعلى الأبواب، المصنوعة من جذوع النخيل، حيث النقوش والزخارف، والتعاويذ التى تقي من العين والأرواح الشريرة.

أما فى "غدامس بالذات، فقد تحولت البيوت، إلى معارض لرسومات ونقوش، تقوم المرأة بها، حيث أن" المكان الذى لا يؤنث لا يعول عليه"، كما حدث ابن عربي، وكما هى عليه "حضارة غدامس"!، "غدامس" هذه جوهرة الصحراء، التى معمارها وتشكيلها منفردان، فتبدو تجسيدا للسراب، أو "جماليات السراب"، فهي مدينة بيضاء، قلبها عجينة الألوان، وخطوطها المتقاطعة خطوط الوهم، فهي مستترة، إنها زخارف الزوال.

بهذا بقي الفن الشعبي، تأويلا للانمحاء والزوال، فكان هو الفن الكلاسيكي، الذى ظهر فى الحروفية والأرابيسك، فن الخاصة، الذى زين بيوت طبقة التجار وحكام المدن، ومقابرهم ومساجدهم، الفن الذى يحتاج إلى محترفين، وإلى الأموال، وإلى مواد خاصة قد تجلب من البعيد.
كان ذلك ومازال، وإن كان إلى الزوال سائر فهو فن الزوال.

وقد بدا ذلك، مثل كل جماليات المكان الخصوصية، فى البلدان العربية وغير العربية، ومثلما كانت صدمة الحداثة مشكل الهوية، فإن الفن التشكيلي فى ليبيا بدأ بالسؤال، هذا السؤال الذى تمظهر، فى احتلال غربي للبلاد، فى مدافع إيطالية فاشية، خرطت هذا البلد وسمته "ليبيا"، وكان يدعى فى الرزنامة العثمانية "إيالة طرابلس الغرب"، ما فى بدايات القرن الماضي، افتتحت فيها "مدرسة الفنون والصنائع"، وصدرت عنها مجلة "الفنون "، التي تهتم بهذه الفنون وتلك الصنائع.
فى تلك الفترة، بدا أن الفنون البصرية ضرورة، كرسوم توضيحية للصنائع، ولتراويس ورسوم الصحف والمجلات…إلخ. لقد بدا أن فن التشكيل ضرورة، كما كان فى بدء الحياة، أي كما عند الطفولة الأولى وعند حضارة تاسيلى، الحضارة الأولى. من هذه المدرسة وتلك الصحف، ثم من هذا التواجد الأوربي، السلطة الجديدة الاستيطانية، بدأ الفن التشكيلي التشخيصي، ثم تمثل فى مدارسه الإيطالية، من كلاسيكيات النهضة إلى الواقعية.. وغيرها. حتى صارت الثقافة البصرية، أسيرة هذه المدارس، ولهذا فإن التجريد، الذى يستمد جذوره من الأرابيسك، وجد رفضا واتهاما بأنه فن الآخر.

إذ بدأ المشهد التشكيلي الليبيى الحديث، مع مدخل القرن العشريني، وفصاحته الإيطالية، التى من مفرداتها: استخدام الطائرة، أول مرة فى تاريخ البشرية، فى الحروب والقصف، في ليبيا حيث كانت ترسم الفضاء الحديث، فجعلت من الليبيين، أول من أسقط طائرة حربية فى التاريخ.. بهذا المشهد بدأت الثقافة البصرية الحديثة!، أي كان على الليبي في هذه الحالة، أن يرسم حمامة وأن يطلقها تطير...