Atwasat

عن الحرب والبكاء والعلماء

محمد عقيلة العمامي الإثنين 03 مايو 2021, 11:27 صباحا
محمد عقيلة العمامي

بعد أيام من إعلان هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وفيما كان جنود كتيبة بريطانية، معروف قائدها بالصرامة والعداء للنازية، يتجول في المعسكر، وكانت الحرارة مرتفعة والذباب مزعجا وكثيرا، مر بعدد من الجنود يتمازحون، ضاحكين، فرحين بانتصارهم وانتهاء الحرب، صاح فيهم محتدا:
- "انتباه!". تجمع الجنود، في الحال، واصطفوا أمامه، قال لهم متسائلا:
- "يبدو أنه ليس لديكم ما تفعلون؟".

"نعم" أجابه عريف الكتيبة: "لقد انتصرنا وانتهت الحرب، بفضل قيادتكم". نظر إليه بحنق وقال له آمرا:
- "إذن، اقتلوا الذباب! أبيدوه من المعسكر".

يقول عريف الكتيبة، إن قطارهم العسكري، عند عودتهم إلى وطنهم، توقف في إحدى المحطات جنوب ألمانيا، وفوق أرصفته شاهدوا صفوفا طويلة من الجنود الألمان بقيافتهم الممزقة البالية، وأمتعتهم المهترئة فوق ظهورهم، يجرجرون أقدامهم، في طريق عودتهم إلى أهاليهم، من بعد أن اطلق الحلفاء سراحهم. يقول:- "انتبهت إلى أن قائدنا الصارم المعادي جدا للنازية يبكي، ولقد وددت أن أتعاطف معه وأخفف من حزنه العميق، لكنني لم أجد مبررا لبكائه. ظل على هذا الحال زمنا، وتحرك القطار، وظل صامتا حزينا حتى وصلنا وجهتنا.

أصدر لي أمرا باصطفاف الجنود، ولما نزل من القطار، وقف أمامنا وقال: ".. منذ أسابيع كان الجنود الألمان، ولعل منهم من شاهدناه في تلك المحطة، يطلقون علينا رصاصهم، يريدون قتلنا، وقتلوا بعضنا بالفعل. وقد يكون من بينهم، الآن، من هو مقتنع بالنازية، لكنني عندما انتبهت إلى أنهم مصطفون بحالتهم البائسة، تحت الشمس الحامية، قلت في نفسي لا بد أنهم، كأي بشر، يتطلعون بترقب بالغ إلى اللحظة التي يحضنون فيها أطفالهم، وزوجاتهم. يترقبون أن تبدأ حياة جديدة، يحرثوا أرضهم، ويتابعوا الحياة تتبرعم فوق ترابها، ويتحلقوا حول المدفأة في الليالي الشتوية، حول أطباق البطاطس المشوية، فيما تفوح القدور بروائح أعشاب أمنا الأرض، ويحدثوا أطفالهم عن أهوال الحرب.

إنهم بشر مثلنا، غير أن ظروفهم اختلفت عن ظروفنا، نحن مثلهم تماما نتطلع إلى أن نصل إلى بيوتنا. هم منكسرون، ونحن منتصرون، فهل نحن حاربنا من أجل فكرة نؤمن أنها خطأ، وأنها ضد الإنسانية، أم حاربنا بشرا مثلنا، غرر بهم أو أنهم فهموها خطأ، أو حتى إن كانوا مقتنعين! كل ذلك لا يلغي أنهم أخوتنا في الإنسانية، أتعرفون ماذا يعني ذلك؟" وانهمرت دموعه ثانية وسمعته يقول عبر غصة البكاء: "نحن من نصنع الحروب؟ نحن من نضع الفوارق بين الناس، من دون احترام قناعاتهم أو ظروفهم..".

تذكرت، بعد أن قرأت هذه القصة، شيئين أولهما: "ألا يتذكر من خرج يوم ما تسمى بـ"أصبح الصبح" حالتهم ونفسيتهم؟ في يقيني أن الوصول إلى أحضان أمهاتهم وعناق أطفالهم كان يسمو عن أية أحقاد تجاه من سجنهم، وأنا على يقين أن عناقهم لذويهم بللته دموعهم".

حسنا، ألا ينتبهون، إنسانيا، إلى أن المسجونين، منذ سنة 2011 يتطلعون إلى مثل ذلك اليوم الذي يعانقون فيه ذويهم قبل رحيلهم عن دنيانا؟ تماما مثلما تمنوا هم قبل أن يصلوا سدة صنع القرار؟ ألاّ يتذكر الشيخ فلان، والعالم فلان، والدكتور فلان؟ والمجاهد فلان ذلك كله وهم العلماء في دينهم ودنياهم؟ ألا يتذكرون ماذا قال أشرف المرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم، للكفار يوم فتح مكة؟ ألم يقل لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء؟" وكيف نسيتم هذه العبرة، التي تتذكرها البشرية كافة، طوال عشر سنين كاملة؟

أما الأمر الثاني، فلا علاقة له بالحالة الليبية. إنه حالة البكاء، التي لا تفرق ما بين مقاتل، أو ممرض، ولا بين ذكر أو أنثى، كبير أو صغير. البكاء ليس ضعفا لكنه حالة مرتبطة بإنسانية المرء، مرتبطة بقوته وليس بضعفه. أذكر في سبعينيات القرن كنا ثلاثة أصدقاء شبابا، ما زلنا في مرحلة الدراسة. كنا في القاهرة، و"فلسنا" وظللنا أياما ننتظر حوالة من ليبيا. كنت ورفيقي نشكو لله من الفقر والعوز، وكان صديقي قد خاب ظنه في أحد أصدقائه، الذي تخلى عنه، وصعبت عليه نفسه، وغلبته ذلك اليوم دموعه، فبكيت معه، وفيما كانت حفلة بكائنا متواصلة، دخل علينا رفيقنا الثالث، وصاح منزعجا: "كنكم؟ إيش فيه؟" ومن دون أن نجيبه انهمر يبكي معنا متضامنا، من دون أن يعرف سبب بكائنا!

وهناك من يحدثنا عن دموع فرح، لكن يقول عالم النفس "ساندور فيلدمان في كتابه أسلوب الحديث والإيحاءات في الحياة اليومية-Speech & gestures in everyday life "، يقول ما معناه ليس هناك من يبكي لفرح صادق، إذ إن مثل هذه الدموع تشي عن حالة من الألم. فالعروس، لا تبكي ليلة زفافها إن كانت بالفعل سعيدة بزواجها، أما أمها، فقد تبكي يوم زفاف ابنتها، لكن ذلك لا يعكس سعادتهما، بقدر ما يعكس حزن الأم لفقدانها جزءا من وظيفتها في الحياة، وأيضا ترى أن ابنتها ما زالت صغيرة على الزواج!".

ويقول أيضا، إن البكاء لا يحدث أثناء التوتر التام، أو الاستكانة التامة، وإنما يحدث خلال حالة الانتقال من التوتر إلى الاستكانة!

أما الأمر الخطير، فهو أن العلم يحذر من كبت الانفعالات والحيلولة دون التعبير عنها، فالدموع المكبوتة قد تؤدي إلى الإصابة بالعديد من الأمراض؛ أبرزها الصداع، والتوتر، وأعصاب المعدة. فالدموع ليست علامة ضعف لكنها متنفس للغضب والكبت.

إن الدموع مهما كانت أسبابها تعرب بالضرورة عن حاجات كامنة في أعماقنا، وهي وسيلة فعالة في القضاء على الغضب والحقد. ومن المثمر أن نفهم مقولة الكاتب الفرنسي "ألبيركامو" الذي نال جائزة نوبل في الأدب: "قد يبكي الرجال من كثرة القبح في العالم" من زاوية أخرى! كأن نفهم ونعترف أن النساء أكثر من الرجال، الذين لا يتعظون، صحة نفسية.