Atwasat

رحيلُ شاهد قرن

جمعة بوكليب الخميس 22 أبريل 2021, 10:39 صباحا
جمعة بوكليب

حين حَلَّ فصلُ الربيع أخيراً بالبر الانجليزي، بعد شهور فصل شتاء طويل وقاس ومضجر، رحل الأمير فيليب، دوق أدنبره، وزوج الملكة اليزابيث الثانية، عن الدنيا، عقب حياة مديدة دامت قرابة قرن من الزمن. وفي المسافة ما بين صرخة ولادته في القصر الملكي باليونان وحشرجة وفاته في القصر الملكي ببريطانيا، تغيّر العالم وأناسه ومناخه، وقامت حروب وثورات، وانتهت إمبراطوريات، وظهرت دول واختفت أخرى، ومشى أول إنسان بقدميه على سطح القمر، ووصل مسبار فضائي إلى كوكب المريخ، ودخلت بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي وغادرته بعد نصف قرن. عاصر الأمير فيليب كل تلك التقلبات والتغيّرات، وتقلب وتغيرمعها، حتى أستحق عن جدارة لقب شاهد القرن.

العَرصة، التي كانت تقف شامخة في بيت وندسور، طوال أعوام طويلة، طاحت. آلة الزمن الشرهة، التي تلتهم الأعمار والعمران، تولت أمر تفتتيها من الداخل، على مهل وبثقة، كما تعودت أن تفعل. ووفقاً لمنطق آليتها، فإن الدور سيحين قريباً على العرصة الأخرى المتبقية. وحين يحدث ذلك، سوف يُسدل الستار معلناً نهاية فصل آخر من تاريخ الأسرة الوندسورية، ثم يرفع من جديد مؤذناً، في نفس الوقت، ببداية حقبة جديدة، يتوّج فيها ولي العهد الكهل الأمير تشارلز ملكاً. وينطلق المنادون بأجراسهم النحاسية في الشوارع كالعادة صارخين: ماتت الملكة عاش الملك.

لكن زوجة الملك القادم لن تتوّج إلى جانبه ملكة، بل ستبقى دوقة كما هي الآن. الصورة واضحة منذ اليوم الذي وافقت فيه الملكة على اقترانهما، عقب وفاة الأميرة ديانا. ولأن العادة جرت على ألا تترك الأمور منفلتة في القصر الملكي، بل تربط حلقاتها وتغلق بإحكام، وتنفذ كما قررها الدهاة من المستشارين في القصر، الذين يتحركون كأشباح من خلف كواليس، ويحيكون ما احتاج منها إلى حياكة، أو يرقعون ما احتاج منها إلى ترقيع ، بهدف الحفاظ على الأوضاع، وبغرض ألا يختلّ توازن الدنيا داخل القصر، أوتنفلت فجأة خارجة عما رسم لها من مسارات، وحدد لها من اتجاهات.

الأمير فيليب الراحل، ابن ملك وسيكون أباً لملك. سوء حظ عائلته المالكة في اليونان، أدى إلى عزلها من القصر، وطردها من البلاد، عقب هزيمة اليونان أمام تركيا في حرب عام 1924، واعتبر الملك مسؤولا عن الهزيمة باعتباره القائد الأعلى للجيوش اليونانية. ذلك الحدث حرمه أن يكون ملكاً. لكنه، بعد سنوات من العيش منفيا مع أسرته وأقاربه، تزوج بملكة بريطانيا العظمى. وما حدث هو أن العائلات المالكة في أوروبا، كانت تحرص على التزاوج والتصاهر فيما بينها، بغرض بناء تحالفات سياسية وعسكرية، وأيضاً بغرض الحفاظ على زرقة دمها من التلوث بدماء العامة من شعوبها.

الملكة فكتوريا جدة الملكة اليزابيث تزوجت من أمير ألماني اسمه ألبرت. وأنجبت منه تسعة أبناء وبنات، زوجتهم جميعا إلى أميرات وأمراء من عائلات مالكة في أوروبا. ولذلك، حين كبرت الملكة اليزابيث، كان لزاما البحث لها عن زوج بدم ملكي، حتى وإن كان من مملكة أوروبية أقل قوة وشهرة وعظمة من بريطانيا. وأدى البحث إلى الأمير فيليب. 

وبزواجهما ابتدأت حقبة جديدة في عائلة وندسور المالكة. الأمير فيليب ينتمي بالأصل إلى أسرة باتنبرج الألمانية. واسمه قبل الزواج فيليب باتنبرج. لكن الحكومة البريطانية وقد خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية ضد الألمان، فرضت عليه تغيير لقبه الألماني إلى إنجليزي، واختارت له لقب مونت باتن، فصار اسمه فيليب مونت باتن.

وفاة الأمير فيليب لم تكن مفاجأة، بل متوقعة. ما كان حقاً مفاجئاً ومثيراً لكثير من التساؤل هو السيل الذي تدفق، منذ لحظة إعلان الوفاة وحتى يوم الدفن، من تغطية إعلامية للحدث سادت في القنوات التلفزية ، وفي الصحف على اختلافها. هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) استلمت أكثر من 110 آلف شكوى، الأمر الذي يشكل سابقة في تاريخها. الشكاوي جاءت من مواطنين بريطانيين احتجاجاً على ما قامت به الهيئة من تغيير في برامجها اليومية حتى الإخبارية منها.

الأمير فيليب رحل عن الدنيا، بقلب منكسر، نتيجة ما آلت إليه أحوال أفراد أسرته غير المرضية. فأحد أبنائه – الأمير آندرو – أوقف عن ممارسة مهامه وواجباته الملكية نتيجة ورود اسمه في فضيحة أخلاقية تتعلق برجل أعمال أمريكي معروف، أدت إلى سجنه ثم انتحاره. ورغم إنكار الأمير لتورطه إلا أن القضية لم تنته بعد، ومازال الأمير يرفض المثول أمام المحققين. أضف إلى ذلك ما حدث مؤخرا من شقاق وخلاف في العائلة أدى إلى قيام حفيده الأمير هاري بإعلانه التوقف عن آداء مهامه وواجباته الملكية، وقطع علاقته بشقيقه الأكبر الأمير وليام، ورحل منكسر الخاطر إلى أمريكا للعيش مع زوجه الأميركية، وبدء حياة مختلفة، من دون حرس ملكي مصاحب، أو جرايات مالية كان يستلمها من خزينة الدولة. وأعقب ذلك بمقابلة تلفزية أجراها برفقة زوجه في محطة أمريكية، رفعا فيها الغطاء عن أمور ذات سمة عنصرية مورست ضد الزوجة من قبل أفراد من العائلة المالكة ومن البطانة المحيطة بهم.