Atwasat

أنور المعداوي.. وعبدالسلام الأسمر

سالم الكبتي الأربعاء 21 أبريل 2021, 09:04 صباحا
سالم الكبتي

(أنا أكره أدب الظلام. الأدب الذي لا يقود القارئ إلى النور)
(المعداوي)

ناقدان كبيران شهدتهما الحياة الثقافية والفكرية العربية ثم رحلا في العام نفسه. 1965. الأول، وهو محمد مندور، في مايو. والثاني، أنور المعداوي، في ديسمبر. تلك الأيام ظلت مفعمة بالحركة والنشاط الفكري الكبير. معارك ونقاشات وسجالات عبر الصحف والمجلات. وكان هناك اهتمام واضح بما يدور وما ينتج عن هذه المعارك الساخنة بين الأدباء والكتّاب. حياة اعتراها الجمود في هذا الوقت. لم تعد هناك سجالات أو معارك أو نقاشات. الواقع تغير وتبدل ولم تعد الأمور تجري في أعنتها. فمن يهتم الآن من الأجيال بالفكر وروعته. من يهتم بالحرف والكلمة. ثم أين الأجيال اللاحقة من السابقة في كل المجالات. لم تعد الأمور كما كانت.

مندور ناقد بالغ الأهمية، وهو تلميذ لطه حسين. أخذته السياسة من الأدب. تعصب لحزب الوفد وأكلته السياسة كثيرًا بعد أعماله النقدية وعطائه الأدبي الذي أظهر نظرية الأدب المهموس. وهو زوج الشاعرة ملك عبدالعزيز التي رحلت بعده بأعوام (1999). التقى النقد الشعر وتزوجا رغم أن النقد والشعر لا يلتقيان، كما يُقال. كانت ملك عمة لزوجة الشاعر الفلسطيني محيى الدين عبدالرحمن الذي قضى فترة في بنغازي موظفًا بمكتبة الجامعة الليبية، وأصدر ديوانه (الغريب والشواطئ البكر) عن دار قورينا العام 1975. الزوجة اسمها ماجدة منير عملت صحفية في جريدة الجهاد أيام صدورها في بنغازي.

والمعداوي ابن كفر الشيخ في دلتا النيل تلميذ للشيخ أمين الخولي وكان من بين جماعة الأمناء، كما أطلقوا على أنفسهم، وهم مجموعة من الطلاب العرب والمصريين في كلية آداب القاهرة العام 1944. هذه السنوات مزجت التجربة بالسخونة والتفاعل وبالكثير من القضايا، وكان فيها الإخلاص للفكر الذي يقود إلى التنوير والتغيير والإصلاح والنهوض بالإنسان ومحاربة التخلف والجهل. المعداوي أظهر من جانبه نظرية الأداء النفسي في الفن ودافع عنها في دراساته ومقالاته. وقد أخلص للنقد وابتعد عن الاتجاهات السياسية ونأى بنفسه عنها، لكنها في النهاية أرهقته وحاربته من دون أن يدري. كانت حياته التي بلغت خمسًا وأربعين سنة مثل البركان الذي تفجر. ثم همد وسكن. نشر المقالات وتعصب لرأيه بكل حدة وواجه خصومات مع العقاد وسلامة موسى وطه حسين وعبدالرحمن بدوي وأحمد فؤاد الأهواني ومحمود أمين العالم، ووصلت إلى حد رفع القضايا والاتهامات. ورغم ذلك ظل المعداوي حادًا في نقده إلى أبعد حد، وكان مُصرًا على أن حرية الإنسان وكرامته هما أرفع ما في الحياة من قيم. وظلت حكمته مرفوعة باستمرار في أنه يقول كلمته ويمشي، لكنها كلمة الحق أو ما يعتقد أنه الحق.

لقد ظل المعداوي مخلصًا لفنه. وأسهم بفاعلية في تطور الحركة الثقافية الفكرية العربية من خلال كتاباته في مجلة الرسالة والآداب التي ربطته برئيسها سهيل إدريس علاقة وثيقة قبل تأسيس المجلة عام 1953. إضافة إلى علاقاته واهتمامه بالشاعر محمد مفتاح الفيتوري أيام لباسه الأزهري وتشجيعه المعنوي والكثير من الأدباء العرب.. نزار قباني وغائب طعمة فرمان. وعبدالوهاب البياتي. وسيد قطب أيام كان ناقدًا مجليًّا قبل هروبه إلى عالم آخر أفضى به إلى المشنقة. ونجيب سرور ورجاء النقاش وأنسي الحاج، فيما ظلت علاقته العاطفية من خلال رسائله إلى الشاعرة فدوى طوقان؛ حيث أفصحت رسائلهما عن مشاعرهما دون أن يلتقيا. هو في القاهرة وهي في نابلس. وقد استفاد الأدب من هذه العلاقة البعيدة رسائل ومشاعر وآراء وقصائد في أجواء تحاصر مثل هذه العلاقات وتخجل منها في ذلك الزمن.

والمأساة-اللعنة حلت لاحقًا بالمعداوي. لم يتزوج. عانى من مرض الكلى ثم ضغط الدم الخبيث نتيجة لمعاناته من الإقصاء وغطرسة الدوائر الثقافية التي لم تعرف قدره وحرمته من مكانته التي ينبغي أن يحصل عليها بدلًا من المرتزقة والأقزام المتمسحين بالسلطة ومداحيها وحاملي أوسمتها في كل الأوقات. لم يكن المعداوي من هؤلاء. انزوى بعيدًا وصمت. همد البركان بعد تفجره. كان صمته موقفًا. لم يقترب من السلطة. ولم يدنس كلمته بالنفاق لمسؤولي الثقافة الأدعياء. تكالب عليه المرض والإقصاء. ولم تحتمل نفسه هذه المأساة وسط واقع لا يقدر المواهب الكبيرة ويقذف بطلائعه إلى المنفى النفسي، على رأي يوسف القويري. هذه طبيعة النفس الحاقدة واللئيمة التي تجيد الرقص في دهاليز ما يسمى بالثقافة في الوطن العربي. عالج كثيرًا من المرضين. وابتعد في قريته عن القاهرة. وتداوى بكل الوسائل ومن ذلك الرقى والأحجبة عبر شيخ الطريقة الأسمرية بمصر التي تتبع أصولها في ليبيا تلك الأيام. وهو المثقف الكبير والواعي الذي اضطر إلى الأخذ بكل الأسباب التي تقود إلى الشفا.

صدر بعض نتاجه النقدي قبل رحيله فيما ظل اهتمام رجاء النقاش وأحمد محمد عطية بتراثه عقب ذلك الرحيل من الأمور التي أسدت وفاء عظيما منهما لقيمة هذا الفنان الناقد الذي يحتاج إلى المزيد من الدراسات والاهتمامات العلمية والفكرية. ذلك أمر يحسب على الدوام ويحمد للنقاش وعطية.

ثم غيّب الموت المعداوي بعد أشهر من رحيل محمد مندور؛ ليشهد عام 1965 فقدان عملاقين كانا يملآن الساحة ويشغلان الناس.. ويتركانها للأدعياء والمزيفين الذين يقودون الأمة إلى النفاق والتهريج الرخيص ويجعلونها تعيش مآسي ولعنات لا تنتهي على الإطلاق!