Atwasat

ليبيا المرتجلة وغياب التخطيط

سالم العوكلي الثلاثاء 20 أبريل 2021, 05:01 مساء
سالم العوكلي

تطرقت في المقالات السابقة لمدونة مشروع ليبيا 2025 رؤية استشرافية، منطلقا من مخاطر مستقبلية تهدد الاقتصاد الليبي بسبب اعتماده على مصدر ريعي وحيد، وما تسبب فيه هذا المصدر والسياسات الريعية التي أحاطت به في تقويض القطاع الخاص وإجهاض عملية تراكم خبراته، وتحويل ليبيا إلى مؤسسة ضمان اجتماعي ضخمة يتقاضى فيها االموظفون مرتبات من دخل هذا النفط دون أن يقدموا إنتاجا أو خدمة بالمقابل . كانت ثمة أسباب وراء تطرقي لهذا المشروع الذي أجهض منذ بدايته ويعتقد البعض أنه أصبح من الماضي، ومن هذه الأسباب، الإشارة إلى أهمية العقل التخطيطي الذي افتقرت له ليبيا لسنين طويلة، حيث اتسم العمل فيها بالارتجالية والحماس الثوري، وأصبحت المشاريع لا تقاس إلا وفق جدواها الإعلامية والترويجية للنظام، وما تتباهى به من أرقام على الورق فقط، وسبب آخر يتعلق بكون هذه الرؤية التي دُشنت من قبل خبرات وطنية، العام 2008 ، مازالت صالحة لإدراجها في متن التخطيط المستقبلي، ويمكن ترحيلها بعد المراجعة والتنقيح إلى العام 2035 إذا ما أراد المسؤولون مستقبلا العمل وفق رؤى وخطط تحدد الأهداف والآليات، وتضع خارطة طريق شاملة لجميع القطاعات كي تعمل متضافرة لتحقيق أهدافها، ومن أهم هذه الأهداف تنويع مصادر الدخل قبل أن يخرج النفط الأحفوري من معادلات الاقتصاد العالمي المستقبلي، ويصبح جزءا من تراث الطاقة كما الفحم الحجري الآن.

منذ انقلاب 1969 توقف العمل بخطط مدروسة تتدرج في نقل المجتمع ودولته إلى فضاء الحداثة، وأصبحت جل المشاريع التي صرفت عليها المليارات تقام بشكل عشوائي، وأصبح العمل في ما سمي الجماهيرية مرتبطا بهلوسات الحاكم المغرق في مونولوجه الخاص وتدخله في كل التفاصيل، ومرتبطا بالهاتف الأسود بمكتبه الذي يوزع الأوامر المرتجلة، وظل التركيز فقط على القطاع النفطي كضمانة وحيدة للحفاظ على تنفس الدولة الصناعي، والنتيجة، بعد عقود طويلة من ضخ النفط، نحن في بلد متهالكة، وتقريبا دون بنى تحتية لكل القطاعات.
كان آخر عمل تخطيطي علمي يستشرف المستقبل وفق ركائز علمية ومعرفية، الخطة الخمسية 1969 ــ 1974؛ التي بدأت في فترة رئاسة عبد الحميد البكوش لمجلس الوزراء، قبل أن يُقصى من المشهد، ومعه يُجهض مشروع حقيقي لجعل ليبيا في واجهة العالم الحديث. وهي الخطة التي يتحدث عنها د. علي أحمد عتيقة، في كتابه المهم "بين الإرادة والأمل : ذكريات وتجارب حياتي" الذي يسجل فيه تجربته الحياتية والعملية، متطرقا فيه وبدقة إلى أهم مراحل تشكيل الدولة الليبية المستقلة حديثا، ومساهمته الخاصة مع كفاءات وطنية أخرى استطاعت أن تضع الدولة الليبية الناشئة على الطريق الصحيح فيما يخص الأفق التنموي والإداري والاقتصادي. وسأركز هنا على حديثه عن الخطة الخمسية الثانية؛ والتي سبق الانتهاء من إعدادها انقلاب سبتمبر الذي نقل الدولة من آلية التخطيط العلمي إلى عشوائية الحماس الثوري، ومعه يذهب مستقبل دولة القانون والتنمية المرسوم بعناية إلى النسيان في ظل حمى ثورية مجنونة وجهت كل مقدرات الدولة إلى تكديس السلاح، وإهدارالأموال في دعم الجماعات المتمردة في أصقاع الدنيا. يقول د. عتيقة: "كان من الطبيعي أن تبدأ الخطة الثانية باستعراض أهم إنجازات الخطة الخمسية الأولى 1963 ــ 1968 بالإضافة إلى السنة التكميلية المنتهية في 31 مارس 1969. كما أنه كان علي أن أتأكد من أن الخطة قد استفادت من المسوحات الميدانية ومخططات المدن والقرى التي أشرفتْ على إعدادها وزارة التخطيط والتنمية مع الوزارات المختصة. لذلك كنت سعيدا جدا بما حققه فريق التخطيط المكون من حوالي 250 ليبياً من الجامعيين المؤهلين ومن عشرات الخبراء العرب والأجانب. لقد استطاع ذلك الفريق بالعمل المتواصل والجهد المضني أن يعد مشروع الخطة في أربعة مجلدات تفصيلية وفرت قاعدة ارتكازية متينة لانطلاقة تنموية سليمة متوازنة لو تم الحفاظ عليها وتنفيذها حسبما كان مخططا لها.". وبعد أن يذكر بعض الظروف المحلية والدولية المحيطة بفترة إعداد هذه الخطة، يعود للحديث عن ملامح هذه الخطة التي أعدها وأشرف عليها لمدة عام كامل، ثم تولى الدفاع عنها أمام السلطات التنفيذية والتشريعية : "يتكون الجزء الأول من مجلد واحد بعنوان الهيكل الاقتصادي العام الذي تضمن أهم التطورات الاقتصادية والاجتماعية منذ استقلال البلاد وحتى نهاية الخطة الخمسية الأولى، كما تضمن نتائج المسح الميداني للقوة العاملة بهدف تقدير حاجة البلاد منها خلال فترة الخطة. وتضمن أيضا بداية أولية لتخطيط المناطق الاقتصادية حسب مقوماتها الطبيعية والبشرية تمهيدا للانتقال بعملية التخطيط من أسلوب تقسيم الخطة بين قطاعات الإنتاج والخدمات إلى إعدادها على أساس مناطق جغرافية متكاملة، لكل منها معطيات ومقومات تجعلها مركزا تنمويا متميزا...".

تطرح هذه الرؤية الذكية للبعد الجغرافي مفهوم التنمية المكانية والتكامل الاقتصادي بين مناطق ليبيا حسب خصوصية كل منها، وهذه ليست لها نتائج اقتصادية مهمة فقط، لكن لها نتائج اجتماعية من شأنها أن تعزز الوحدة الوطنية وكيمياء الانصهار الوطني وفق المصالح المتبادلة والتكامل بين المناطق، وليس وفق شجون عاطفية من الممكن أن تنقلب في أي لحظة إلى العكس حين تكون المصالح مرتبطة بمصدر وحيد للدخل، وباقتصاد ريعي من شأنه أن يبث رهاب المركزية ومشاعر التهميش التي تهدد وحدة البلاد والسلم الاجتماعي، مثلما يحدث الآن بعد أن زالت منظومة الإكراه.

"إن البترول أصل يستهلك بالتدريج وله عمر محدود يجب قبل تلاشيه تنويع أنشطة الاقتصاد وقيادته إلى الهدف المنشود على مراحل تشكل كل منها خطة خمسية." وفق هذا المنطلق الأساسي وعى المخططون الأوائل مخاطر المركزية والتداعيات الخطيرة للاعتماد على مصدر ريعي وحيد وقابل للنفاد، فجعلوا أهم مرتكزات الخطة الخمسية الثانية تفكيك المركزية والتركيز على التنمية المكانية وتعديد مصادر الدخل، وهو منحى يميز كل تخطيط حديث يسعى لثقافة النهوض والتنمية المستدامة، ولم يلتفت له التخطيط الليبي فيما بعد إلا بعد أربعة عقود عبر مشروع ليبيا 2025 ، وباعتباري كنت ضمن هذا المشروع متعاونا في قطاع العلوم والثقافة، أدهشني أن أجد في كتاب مذكرات د. عتيقة منطلقات الرؤية نفسها تقريبا للنهوض بليبيا، وهي رؤية كان من المفترض أن تنفذ قبل 38 عاما من مشروع ليبيا 2025 الذي صيغ في 2008 ، والذي أُجهِض بدوره بسبب تعنت النظام السابق ورفضه العمل وفق خطط سنوية أو رؤية استراتيجية، مفضلا الارتجال كركيزة للنظام الفردي المصاب عادة برهاب المستقبل والتخطيط طويل المدى.
يصف د. عتيقة في كتابه، وفي الجزء المتعلق بالخطة الخمسية الثانية، الخطوات المقترحة إجرائياً للقضاء على المركزية: "اقترحت الخطة الثانية تقسيم البلاد إلى 14 منطقة اقتصادية متكاملة موزعة بين المحافظات العشر، وحددت الخطة أهم المقومات التي تؤهل كل منطقة للتخصص في نشاط اقتصادي أو أكثر. كانت الخطة الثانية تهدف إلى تمهيد السبيل لجعل تلك المناطق قادرة على النهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد أن توفر لها الخطة الخمسية الثالثة كل المتطلبات المالية، والاستقلال الإداري المستقل عن أجهزة الأمن والأعمال الروتينية. كان من المتفق عليه أن يعمل جهاز التخطيط المحلي تحت إشراف مجالس متخصصة تخضع للمحافظ وهو بدرجة وزير ويتبع لرئيس الوزراء ولديه صلاحيات واسعة. وقد تبين من ذلك المسح الميداني للتخطيط والتنمية الإقليمية أن بعض المناطق تعد مؤهلة للتنمية السياحية، وأخرى للزراعة المروية، وثالثة للزراعة البعلية، ورابعة للصناعات البترولية، وأخرى للصناعات الخفيفة. هكذا يصبح بإمكان الخطة الخمسية الثالثة أن تضع الأسس اللازمة للتنمية الشاملة المعتمدة على التنويع والتكامل بين مناطق البلاد حسب قدراتها الذاتية سواء الاقتصادية منها أوالاجتماعية.".

تطرق مشروع ليبيا 2025 لهذه الأفكار المتعلقة بالتنمية المكانية (التي يسميها الكتاب "التنمية الإقليمية") وعن تنوع مصادر الدخل المذكورة أعلاه ، مضافا إليها: الصناعات البحرية، اقتصاد المعرفة ، تجارة العبور. وأعتقد الآن لو أن هذا الكتاب طُبع مبكرا قبل مشروع ليبيا 2025 لوفر علينا الكثير من الجهد، ولزودنا بالكثير من الإلهام لما يزخر به من أفكار علمية مهمة لصناعة التقدم على كل الأوجه، لقد كان مع د. علي عتيقة الكثير من الكفاءات الوطنية لكنه يختلف كونه سجل كل هذه التجربة والخبرة في كتاب ضخم اعتبره وصيته للأجيال القادمة من أجل نهضة ليبيا عبر صياغة الأحلام التي تنفذها الإرادة.