Atwasat

لوحة أولى اسمها: محمد على لاغا

أحمد الفيتوري الثلاثاء 20 أبريل 2021, 04:59 مساء
أحمد الفيتوري

لماذا كان رائد الرسامين الليبيين، ضابطا فى الجيش العثماني؟ يقول المؤرخ: ان هذا البلد، كان آخر البلدان العربية التى بقيت تحت السلطة العثمانية، إيالة طرابلس الغرب، التى تم تسليمها بفرمان سلطاني لملك إيطاليا، والذي بمرسوم سماها ليبيا: الشاطئ الرابع للمملكة الإيطالية.
لكن الباحث يضيف، أن هذا الرسام الضابط محمد على لاغا، كان يعيش النهضة العربية فى ظل الأستانة، كما كان يعيشها ساطع الحصرى أبو القومية العربية، وكما ان الشعر العربى المعاصر بدأه الضابط سامي البارودى، فإن الفن التشكيلي الحديث الليبيى، رائده هذا الضابط العثماني!. إذا ليس ثمة خصوصية كما يبدو.

إنها صورة الإنسان المنخرط فى العالم، صورة هذا الرسام الضابط، من يعيش فى ثكنات الجيش العثماني، حيث "لا تغير الأشياء صورتها فحسب، عندما تمر فى مصفاة الآخر، بل تغدو أشياء جديدة، مكتشفة". فى هذا الجيش الذى يدربه ويعلمه الآخر، وتـنتـشر فيه نظرة الآخر، وتأخذه نظريات ومشارب وتيارات وثنائيات، عالم يولد وعالم يموت: أصالة ومعاصرة، كان هذا الضابط فى هذا الجيش مرة فى الأستانة، مرة فى أدرنه، مرة فى صوفيا، التى فيها كان أسيرا تعرف فيها على مدير مدرسة يدعى "ميتوف"، الذى حين شاهد لوحاته ولوحات زميله وصديق عمره سامي عتيق، قال له: "إنكما لستما ضباطا ، إنكما رسامان مشهوران."!.

فما الذى ميز رسومات، رائد الرسامين الليبيين محمد على لاغا؟..
إن الرسومات، ما ضمها الكتيب، ما أعده ونشره وقدم له الاستاذ خليفة التليسى، والذي ترجم محتواه عن التركية المرحوم محمد الأسطى، إن هذه الرسومات الكلاسيكية، والتى منها بعض الاسكتشات لميادين وشوارع طرابلس، وبعض الأضرحة، تبدو تسجيلا للمكان الذى يكون فيه البشر هامشيين. بحيث تظهر بوضوح التأثير العسكري على فن "محمد علي لاغا "، من لاشك رسم الكثير من الخرائط العسكرية، وبذا فإن تمكن هذا الفنان من المنظور واضح، كذلك اهتمامه بالخطوط بارز، وكذا تفاصيل المشهد وهندستة، بالاهتمام بالزوايا والمعالم البارزة، رغم أن صورالأبيض والأسود تخفي بعض معالم اللوحات. من هنا كان تميز الفنان لاغا يكمن فى حرفيته واعتنائه باوصول الرسم الكلاسيكية، وكان اندهاش "ميتوف " فى التعارض بين أن الفنان ضابط، وانه ضابط عثماني ومن شمال أفريقيا "ليبيا"!.

ولد محمد علي لاغا عام 1878م وتوفى عام 1947م ، فى طرابلس الغرب، وقد تخرج من الكلية الحربية عام 1898م، وفي عام 1907م ترقى إلى رتبة "كول آغاى - عقيد "، وفى عام 1908م، عين مدرسا للرسم فى مدرسة "كولالى" الإعدادية، ثم مدرسا للرسم فى ثانوية "بورصة "عام 1914م، وأحيل للتقاعد عام 1924 م.

ولكن كيف جاء إلى الفن ، لماذا الرسم ، وما الذي رسمه، وما هو أثره في الرسم فى ليبيا؟. سوف نستعين بالمصدر اليتيم لدينا - وهو الكتيب الذى أشرنا إليه - للبحث، والذي يحتوى على شيء من السيرة الذاتية لهذا الفنان والتى جأ فيها: "لقد تلقيت علمي فى مدرسة كولالى. ولم أكن أحب اللعب منذ صغري، وحين كان زملائي يلعبون فى حديقة المدرسة، كان بيدي دفتر رسم وقلم أرسم به بعض الأشياء.".

فى سيرة أخرى لفنان ليبيي - هو رسام الكاريكاتير الشهير محمد الزواوى - سوف تقابلنا هذه الحالة من الانفراد، والانغماس فى التشكيل فى الطفولة، بحيث يبدو أن الرسم بديل للعلاقات الإنسانية، وارتكان للعب بالبشر وإعادة للخلق، وتصور للمكان الذي هو مكان للزوال والانمحاء، هذا المكان الذي لا ذاكرة له.

يقول محمد علي لاغا فى سيرته: "وحين وصلت إلى المرحلة المتوسطة في المدرسة، كان بين الدروس درس للرسم، وكان مدرس الرسم آنذاك معلمنا القيم أخ زكائى باشا، المرحوم السيد حسن الرضا. وحين شعر أن رغبتي زائدة تجاه الرسم، أخذ يرجحنى على زملائي، وحال دخوله غرفة الدرس، كان يأتى لصوبي، ويقف أمام المقعد الذى أجلس عليه، ويخاطبني قائلا: "أيها الرسام الصغير ماذا رسمت؟"، ويرى ما رسمته، ويصحح ما وقعت به من أخطاء. وتشجيعه هذا لي سرني كثيرا. وكنت أهرب إلى الصفوف الخلفية، فى غرفة الدروس حتى تتاح لى فرصة الرسم.".

لقد أخذ لاغا بالرسم من الصغر إذا، ووجد الرعاية اللازمة، ولم تبعده العسكرية عن نفسه وعن ميوله، "ولم تثنه الحرب، أو لم تبعث فى نفسه الخذلان، تجاه حبه للرسم"، ولهذا صار محمد على لاغا عضوا فى جمعية الرسامين العثمانيين، التي تشكلت بعد إعلان الدستور عام 1908م، وفي كل عام كانت لوحاته تعرض فى بناء هذه الجمعية فى أنقرة، وله مئات من اللوحات الفنية ومنها: 1- ثلاثة شرفاء 2- معبد إسلامي فى أدرنه 3 - جامع فى شان قلعة عرض عام 1918 فى معرض الرسم فى برلين 4 كنيسة "فى القلم الأسود".. وتوجد تسعة رسوم معروضة الآن فى متحف الرسم.

ولكن ذهبت رسوم هذا الفنان عن الذاكرة الليبية، كما ذهب الفنان نفسه، ومثلما تمحو ريح القبلى، ريح الصحراء الليبية، كل أثر، فإن هذه البداية/ العلامة ذهبت أدراج الرياح، وسيكون على الفن التشكيلي الليبيي، أن يبدأ من جديد، دون ذاكرة، وسوف يتطلع الفنان التشكيلي الليبيي إلى النافذة الغربية، وسوف يتعلم في كل مرة أليف لا شيء عليه، وسوف يكون كل فنان هو أول ولا قبله ولا حتى بعده..