Atwasat

أنابيش مصريّة

جمعة بوكليب الخميس 15 أبريل 2021, 12:02 صباحا
جمعة بوكليب

انتهيتُ، مؤخراً، من قراءة كتابين مهمّين وممتعين في آن معاً، شكلاً ومحتوىً، لواحد من أهم الكُتّاب الصحفيين في مصر، ألا وهو المرحوم صلاح عيسى. الكتابان، كما قرأتهما على الترتيب، هما: "هوامش المقريزي" و "حكايات من دفتر الوطن." وفي الواقع فإن الكاتب المرحوم أصدر الثاني منهما أولاً، ثم ألحقه بالهوامش. وكنتُ قد أحضرتهما معي إلى مقر إقامتي في لندن، لدى زيارتي الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، قبل أن يحلّ الوباء الفيروسي بالأرض، ويحيط بنا حصاره المميت. وقبل أن نهرب فراراً من شروره إلى الاختباء متحصّنين وراء جدران بيوتنا.

الكتابان في غاية الأهمية، لكل من يريد أن يستمتع بالقراءة، ويتعلم فنّ كتابة المقالة. ولمن يريد أن يتعرف ويدرك تاريخ مصر، في الفترة المملوكية وما بعدها، ويخوض في أجواء مناخاتها. وفكرتهما، كما ذكرها المؤلف، بدأت بنشرهما في الصحف، على شكل زاوية يومية، تتضمن حكايات مختارة بعناية، لتتلاءم مع هدف الكاتب، في فتح الأبواب أمام القاريء المصري العادي، في حقبة المد اليميني والظلامي، ليتعرف من خلالها على تاريخ بلاده، وليعي معنى الوطن ودلالاته، وليزداد ثقة بوطنه وقدراته، وحباً له. بداية النشر كانت في مجلة الإذاعة والتلفزيون، تحت رئاسة تحرير الناقد والكاتب المرحوم رجاء النقاش. وبعدها في صحيفة الجمهورية.

ورغم أهمية الكتابين، فإن هذه السطور في الحقيقة ليست مكرسة للحديث عنهما، بقدر ما هي موجهة للفت الانظار إلى أهمية دور الكاتب والمعلق الصحفي الواعي، من خلال ما يتاح له نشره في زاوية صغيرة، في صحيفة يومية، وقدرته على أداء رسالته المنوطة به من دون ضجيج أو إطناب وفهلوة وتخاريف بلا شكل ولا مضمون، لأنه يريد أن يصل إلى قرّائه من أقصر الطرق وأفضلها إنارة وتعبيداً. وبغرض أن يتمكن من بناء جسر متين معهم، أينما كانوا وحلوا، بهدف التواصل اليومي الخلاق، والعمل على توسيع وتعميق آفاق العقول، وتنبيههم إلى ما يدور حولهم من حوادث في الشأن العام، ومحاولة ربطها بحيواتهم العامة وتقلباتها، ويضيء الطريق أمامهم باستحضار ما يراه مناسباً ملائماً من صفحات كتب تاريخهم المجهولة لهم، والتي ترقد على رفوف مكتبات منسية في مكتبات ومخازن قلاع وحصون مصر القديمة، وقد دفنت تحت الغبار والإهمال والنسيان. والمرحوم صلاح عيسى لم يأتِ بشيء من عنده. فهو لم يخترع الحكايات، أو يعيد كتابة التاريخ كما يحبُّ ويهوى. كل ما فعله أنه بحث عنها بدأب الباحث المجد، والوطني الغيور، والمحب العاشق لوطنه ولشعبه، وأعاد كتابتها بأسلوب صحفي لا أتردد في وصفه بالعبقري، مرسلاً بلغة سهلة ومفهومة وجميلة، وبخريطة طريق واضحة نحو الهدف المرصود، على شكل حكايات أطلق عليها في البداية اسم "أنابيش مصرية."

تجربة كتابة التعليق الصحفي، بشكل منتظم، يومياً أو أسبوعياً، في الصحف تجربة جديدة لم أخضها إلا في الربع الأخير من حياتي. ووجدتني مدفوعاً إليها، بعد إحالتي على التقاعد، بتشجيع من بعض الأصدقاء من الكتّاب والصحفيين، بغرض الحفاظ على قواي العقلية من المصير الذي تؤول إليه الكتب في المكتبات المنسية. ومازلتُ، حتى بعد قرابة أربع سنوات من النشر الأسبوعي المنتظم، لا أجرؤ على وضع اسمي على قائمة كتّاب التعليق الصحفي المعروفين. وحين قرأتُ مؤخرا كتابي المرحوم صلاح عيسى تأكد لي ذلك. والسبب أن كتّابة الزاويا اليومية أو الأسبوعية لمن يدركها ليس أمراً هيّناً. وهي مسؤولية لايمكن التقليل من شأنها، ويجب أن تعامل بما تستحق من اهتمام. وإذا كان ليس من مهام المعلق الصحفي أن يجد حلولاً لمشاكل العالم، التي لا تعرف حدوداً ولا توقفاً، فإن من واجبه أن يعمل على لفت اهتمام القرّاء إلى ما يدور حولهم من حوادث وإشكالات حياتية وسياسية، من وجهة نظر شخصية، لكن لاتتنكر لمسؤوليتها الاجتماعية والإنسانية.
بعد انتهائي مؤخراً من قراءة الكتابين المذكورين أعلاه، تأكد لي كذلك أن وعي المعلق الصحفي بواجباته، وحرصه على متابعة الشأن العام، والحرص على الاهتمام بالقراءة رغم أهميتها لا تكفي مالم يكن الكاتب ممتلكاً لما يلزم المهمة التي اضطلع بها من أدوات، ولأسلوب كتابة يمكنه من طرق أبواب العقول والقلوب معاً، والدخول إليها من دون مشقة، كما فعل صلاح عيسى، وكما يفعل غيره من كتاب التعليقات الصحفية المهرة، والذين صرنا للأسف نفتقدهم، وسط ما صرنا نطالعه من مقالات وكتابات تولد، في أغلبها، بلا روح، وبلا مذاق أو طعم، رغم حرص أصحابها على تناول قضايا وشؤون حياتية تستحق الاهتمام.

رحم الله صلاح عيسى.