Atwasat

سيناريو الاحتواء، أو سياسة ردود الأفعال

سالم العوكلي الثلاثاء 13 أبريل 2021, 02:07 مساء
سالم العوكلي

أستأنف في هذه المقالة سرد السيناربوهات التي توقعها "مشروع ليبيا 2025: رؤية استشرافية" المنجز في العام 2008 بواسطة مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس (سابقا) جامعة بنغازي، وتحت إشراف الدكتور محمود جبريل، أمين مجلس التخطيط الوطني آنذاك، حيث أفضت هذه الرؤية التي أعدها بُحاث ودارسون وطنيون إلى نشر عدة مدونات عن: التقارير القطاعية، والسيناريوهات المستقبلية، والتقرير النهائي الذي يستهل أجزاءه بقراءة للمسرح العالمي، يتناول مفهوم العولمة، ويحدد دينامياتها ومؤشراتها وتجلياتها، واستحقاقات البقاء في بيئتها. كما يعرض التقرير قراءة للمشهد الليبي المحلي (آنذاك)، ويرصد الاختلالات التي يعاني منها، والخبرات والخمائر التي يحفل بها، وبعد أن يُقوِّم التقرير الأوضاع المحلية الراهنة في ضوء البيئة المعولمة، بما يفضي إليه هذا التقويم من موضعة للمشهد الليبي وتقدير لحجم الفجوة التي تفصل الأوضاع الراهنة عن استحقاقات العولمة، واستعراض للإمكانات الكامنة التي يتعين توظيفها، والتحديات المستقبلية التي يتوجب الاستجابة إليها؛ يضع قراءة استشرافية لمستقبل ليبيا تحدد طبيعة مجتمع الأمن الإنساني الذي يتوجب أن نسعى إليها لتجسير هذه الفجوة، وصولا إلى أن يعرض التقرير خلاصة مركزة للرؤية، يفترض أن تترجم لاحقا إلى أهداف استراتيجية محددة.

وفي آخر أجزائه يشير إلى ثلاثة مسارات ممكنة يعرض كلا منها في شكل سيناريو لمستقبل ليبيا: واحدٌ يرصد ديناميات وتداعيات محتملة لاستمرار الأوضاع الراهنة (آنذاك)، وآخر يرصد ديناميات وتداعيات محتملة لتبني ثقافة النهوض والتنمية المستدامة، وثالث يرصد ديناميات وتداعيات محتملة لتبني سياسة ردود الأفعال، أو سيناريو الاحتواء الذي سيكون لب هذه المقالة، لأنه، من جهة، كان المرجح وقتها بقوة في سياق عدم توفر إرادة سياسية للمسار الإيجابي المتعلق بثقافة النهوض لأن دينامياته تذهب صوب تفكيك بنى النظام القائم، ومن جهة أخرى هو المسار الذي تم تفعيله بعد سقوط النظام فيما يخص علاقة الحكومات المتعاقبة أو المتزامنة مع المجتمع ومحاولات رشوته بالهبات أو إيهامه بالوعود البراقة كسبا للوقت.

باعتقاد أن احتمال حدوث سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة وسيناريو ثقافة النهوض ضئيل، فالأول يسرف في التشاؤم، والثاني يمعن في التفاؤل، تعرض الرؤية مسارا ثالثا قوي الأرجحية، بالنظر إلى بعض الاعتبارات الموضوعية التي تشكك في استمرارية الأوضاع الراهنة، تتمثل تحديداً في إرهاصات التغيير، وأخرى قد تسهم في الحول دون حدوث سيناريو ثقافة النهوض والتنمية المستدامة، أهمها وجود مراكز قوى ومصالح وحرس قديم يتهدده هذا السيناريو.

وتشمل ديناميات سيناريو الاحتواء ما يلي:ـ
ارتهان السياسات والأفعال بالضغوطات الداخلية والخارجية. التركيز على إجراء إصلاحات اقتصادية دون إجراء إصلاحات سياسية. استمرار هيمنة القطاع النفطي كمصدر وحيد للدخل وزيادة حجم الاستثمار الأجنبي في هذا القطاع. بروز الطابع البراجماتي في التعامل مع الأطروحات الأيديولوجية الممانعة للتغيير، مع قدر أكبر من الاندماج بحذر في البيئة المعولمة، وانفتاح نسبي على التقنية مع التركيز على وسائل الاتصال. تقدير أكثر موضوعية للأوزان النسبية للتوجهات الخارجية، زيادة الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية لامتصاص الاحتقان.

أما تداعيات هذا السيناريو فتتمثل في: "استيعاب مؤقت للاحتقان الداخلي وحفاظ جزئي على الشرائح الداعمة للتغيير. إحداث تغييرات في قطاعات دون غيرها. إعادة إنتاج الفساد وظهور شرائح جديدة من المتنفذين وأصحاب المصالح. استمرار الخلاف حول توجهات الدولة ودورها. ازدهار اقتصاد الظل والسوق الموازية. تزايد الضغوطات العولمية على النظام السياسي، تحسن طفيف في مستويات المعيشة وتزايد معدلات التضخم. التلكؤ في إصدار الدستور وفي القيام بإصلاحات مؤسسية. استمرار ثقافة الاستهلاك والاتكالية. تزايد المطالب بالمشاركة السياسية. ارتفاع مستويات الانفاق على الصحة والتعليم دون تغيير في مضونها التقني والعلمي، وعدم توافق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل وتفاقم معدل البطالة."

"قد تثير هذه التداعيات أزمات مجتمعية واقتصادية وسياسية، يستجاب لها على المدى الطويل بخلق مجتمع مدني أكثر فاعلية، وزيادة المشاركة السياسية، واقتصاد أكثر تنوعا، وقانون أكثر سيادة، لكنها قد تؤدي أيضا إلى إرباكات مجتمعية لا يمكن التحكم فيها، وإلى حدوث تفكك اجتماعي وعجز الدولة عن الاستمرار في استيعاب الاحتقان الاجتماعي.
سيناريو الاحتواء، شأنه في هذا شأن سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة، يتناقض أساسا مع مفهوم "الثورة المتجددة"، فالثورة بمفهومها الإيجابي لا تستسلم لاختلالات الراهن، وهي فعل وليست ردة فعل، ومفهومها، وإن تضمن استعدادا مستمرا للاستجابة لما يطرأ من تغيرات، فإنه لا يرتهن بها، كونه يتبنى سياسة إحداث تغيرات جذرية حاسمة وشاملة، تتطلع إلى تحقيق قيم العدل والحرية والرفاه، عوضا عن ردود الأفعال التي يعول عليها الانحياز لسيناريو الاحتواء.

وفي النهاية يتعين أن نأخذ في الاعتبار المتغيرات التي قد تطرأ على الساحتين، المحلية والدولية، التي قد تؤثر في ديناميات وتداعيات سيناريو ثقافة النهوض (الذي خططت له الرؤية)؛ والتي من المفترض أن تكون الرؤية على استعداد للتكيف معها والاستجابة لها. "فالركائز التي تنهض عليها الرؤية سوف تسهم في ضمان عدم الارتهان بالطوارئ. غير أن اعتبار تلك المتغيرات يضفي على الرؤية طابعها الظني وينأى بها عن القطع والجزم، قدر ما يدفع عنها تهم الإسراف في التفاؤل والامتثال لتوجهات طوباوية النزعة، فليس هناك ضمان لأن تحقق المجتمع الذي تصبو إليه، لأنه قد تكون هناك أسباب نجهل في الوقت الراهن هويتها تتضافر في الحول دون إيفاء استحقاقات هذا المجتمع. ثم أن كل وضع اجتماعي يخلق مشاكله التي قد يصعب التكهن بطبيعتها. على ذلك، يبدو أن حظوظ سيناريو ثقافة النهوض والتنمية المستدامة أوفر من حظوظ سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة وسيناريو الاحتواء في تحقيق مجتمع الأمن الإنساني الذي تطمح إليه هذه الرؤية".

من الملاحظات المهمة التي يجب أن تذكر في التعليق على ما سبق ذكره، تكرار الحديث عن مجتمع الأمن الإنساني، وهو مفهوم أساسي في الرؤية انطلق من توصيف الأمن آنذاك بكونه أمنَ نظام فقط ، وتحدد الرؤية مفهوم "الأمن الإنساني" كما يلي: "لم يعد الأمن يعني فحسب أمن الوطن الذي يرعى مصالحه ويعليها على كل ما عداها، ولا أمن النظام الحاكم الذي يدير شؤون الدولة، لكنه، قبل ذلك وبعده، الأمن الإنساني، أمن المواطن، ضامن مصالح الوطن وواهب الشرعية لنظام حكمه الديمقراطي: إنه أمن سياسي قائم على إطار مرجعي قانوني يحدد بنى واختصاصات السلطات العامة وآلية تداولها للسلطة، ويضمن استقلالية السلطة القضائية ويعزز استحقاقات المواطنة والمشاركة." وفوق ذلك هو أمن اقتصادي وأمن صحي وبيئي وأمن اجتماعي يؤمن للمواطن تعليما نوعيا لتحقيق ذاته وتحفيز ما يكمن فيه من قدرات ومواهب.

الجانب الثاني ذكر مصطلح الثورة أو الثورة المتجددة فيما سبق، وهي نقطة أخذت الكثير من الحوار داخل فريق إعداد الرؤية، وتشي ضمنيا بأن السبيل لتحقيق سيناريو النهوض هو الثورة مع إدراك أن لا إمكانية لأن يقوم أي نظام طاعن في السلطة بالثورة على نفسه، وربما هذا هو الجزء الوحيد الذي تحسس إمكانية هذا التغيير الجذري، غير أن مفهوم الثورة كان غائما لأن الثورات كما يخبرنا التاريخ لا تعد بالكثير في إنجاز الأحلام غير أن فضيلتها أن تهشم البنى القائمة الواقفة عثرة أمام الطموح والباقي يتكفل به المستقبل حين تتوقف الثورة ويبدأ العمل عبر الرؤى والتخطيط العلمي وعبر المعرفة والكفاءات. ولكل استحقاق وقته المناسب.