Atwasat

الماضي القريب وسيناريوهات المستقبل الليبي

سالم العوكلي الثلاثاء 30 مارس 2021, 11:12 صباحا
سالم العوكلي

في المقالة السابقة، تطرقت إلى كابوس خروج النفط من معادلة المستقبل الاقتصادي الليبي أمام النمو العالمي المتسارع في الطاقات البديلة التي تتضاعف أربع مرات كل عقد، وضرورة أن نفكر في البدائل ونحن ندخل العقد الأخير لأهمية الطاقات الأحفورية. المتداول أن ليبيا توضع وفق معايير مخزونها النفطي من ضمن الدول الغنية، والشكوى الدائمة في أفواه الناس أننا شعب فقير يعيش في دولة غنية، وهذه المفارقة نتيجة سوء إدارة للدخل أحيانا، أو نتيجة سياسات متعمدة من سلطة شمولية تعتبر رفاه الشعب ومشاركته تهديدا لها، غير أن هذا الشعور بالغنى مزيف لأن الدخل الوحيد نفطي، ولأن 80% من هذا الدخل يذهب إلى بند المرتبات لكادر وظيفي 80% منه يتقاضون مرتبات دون أن يعملوا أو ينتجوا بالمقابل.

في هذا السياق تطرقت أيضا لمشروع رؤية "ليبيا 2025: رؤية استشرافية ــ ثقافة نهوض وتنمية مستدامة"، التي أنجزها مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس (سابقا)، وبإشراف مجلس التخطيط الوطني برئاسة د. محمود جبريل. وهي الرؤية التي أفضت ــ بعد دراسات وبحوث وحوارات مكثفة وحدوس مستقبلية ــ إلى كتابة ثلاثة سيناريوهات متوقعة في ليبيا، دون أن ننسى أن فريق الخبراء الوطنيين انتهى من كتابتها بداية العام 2008 من القرن الماضي.

والسيناريوهات الثلاثة هي: (1) سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة. (2) سيناريو ثقافة النهوض والتنمية المستدامة (3) سيناريو الاحتواء. الأول ينطلق من أوضاع ليبيا الراهة آنذاك في 2007 ــ 2008 ، وسمي الثاني ثقافة النهوض، لأنه كان ينطلق من تغيير جذري يتعلق بالثقافة المجتمعية بكل فروعها التي تستجيب لهذه التغييرات الجوهرية، وتنقل المجتمع من طور الثقافة الطاردة للتنمية التي كرسها الاعتماد على مصدر واحد للدخل إلى طور الثقافة الدافعة أو المحابية للتنمية، عبر المشاركة الاقتصادية المجتمعية التي يحفزها مبدأ تنويع مصادر الدخل الذي تأخر عقودا للأسف.

سأحاول هنا أن أوجز السيناريو الأول فيما يخص فرضياته وتداعياته المستقبلية كما وردت في مدونة الرؤية. يفترض سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة تضافر مجموعة من الديناميات التي تعمل على استمراره، مع إدخال بعض التعديلات غير الجوهرية على النظام الاقتصادي تحديدا. وتشمل الديناميات: هيمنة الأيديولوجيا وعدم وضوح إرادة التغيير. سيطرة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني. هيمنة القطاع النفطي على الاقتصاد. سوء مفهوم ضيق للأمن. تدني المعدلات الكيفية في التنمية البشرية. تذبذب الرؤى إزاء دور الدولة والقطاع الخاص.

سوء تقدير الأوزان النسبية للتوجهات الخارجية. التوجس من الاندماج في البيئة العولمية. أما تداعيات هذا السيناريو فكُتِبت كما يلي: استمرار ثقافة الاستهلاك والتلقي وغياب المشاركة الاجتماعية الفاعلة. احتقان داخلي بسبب سوء الأحوال المعيشية قد يؤدي إلى اضطراب أمن المجتمع واعتماد الأسلوب الأمني بمفهومه التقليدي في التعامل مع هذا الاحتقان. تفشي الظواهر الهروبية، المتجلية في التطرف الديني والسياسي، وانتشار المخدرات، والنزوح إلى الخارج. انسحاب الشرائح ذات التوجهات الإصلاحية التي بدأت تتشكل في العقد الأخير، وشعورها بالإحباط بسبب اكتشافها أن إرادة التغيير تواجه صعوبات تحول دون تحقيقها. غياب الدستور وضعف سيادة القانون وهشاشة المؤسسات واستمرار الفساد المالي والإداري وعدم الاستقرار الهيكلي والوظيفي.

استمرار الاقتصاد الريعي والتشريعات المتعارضة التي تؤثر بشكل مباشر في فعالية القطاع الخاص. عدم استثمار الموارد النفطية في تنفيذ برامج ومشاريع التنمية المستدامة وتنويع مصادر الدخل. غياب الشفافية والمحاسبية وتفاقم اهتراء البنية التحتية وتدني مستويات الصحة والتعليم وارتفاع معدلات الجريمة. الزيادة في معدلات البطالة بحيث تصل إلى مستويات قياسية. عدم توفر المناخ المواتي لجذب الاستثمارات الأجنبية.

قد يسهم ارتفاع أسعار النفط (في ذلك الوقت 2007) والطلب المتزايد على الطاقة والاستثمار في طرح نوع من المعالجات الآنية، أو التحمس إلى مشاريع كبرى غير مجدية. غير أن من شأن هذا أن يخلق شرائح جديدة مستفيدة تعيد إنتاج الفساد، ويسهم في تأجيل تلك التداعيات، لكنه لا يتعامل مع أسبابها الحقيقية. ولأن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يحتاج إلى مزيد من الأسواق، ولأن لهذا النظام استحقاقاته الاقتصادية السياسية، قد يقوم بالضغط لإدخال إصلاحات اقتصادية (نفطية تحديدا) تخدم مصالحه. وسوف يؤدي هذا إلى: استقرار نسبي للأوضاع الداخلية بسبب الوفرة المالية والرضا الخارجي؛ تحديث اقتصادي نسبي في بعض المجالات، لا سيما النفط؛ القيام بدور إقليمي تحدده مصالح أجنبية؛ استثمار المساهمة في الحد من الإرهاب في تجنب التدخلات الأجنبية السافرة؛ تواصل وجود خطر الانفجار الاجتماعي؛ استمرار العزوف عن المشاركة السياسية، واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان.

وفق هذا قد تُستغل أزمات الوضع الراهن في جعل الأجندة الليبية جزءا من سيناريوهات تفرضها قوى خارجية وتحقيق مصالح الخارج على حساب احتياجات الداخل. وفي النهاية، فإن المجتمع الذي تحركه هذه الديناميات، بما تفضي إليه من تداعيات "مجتمع محبط، يائس، مفكك، مغترب، مضطرب، تحكمه دولة ضعيفة، تابعة، ومخترقة، ومهددة.". لاننسى أن كل هذا كتب حرفيا في مدونة الرؤية التي طبعت في التقرير النهائي مع ملاحقه بداية العام 2008. وكانت هذه الرؤية تعمل في منطقة حرجة، حيث أمانتها العملية وحياديتها لا تتوافق مع طبيعة النظام الحاكم، وبفعل هذه الأمانة العلمية كانت ترى أنه لا سبيل للنهوض إلا بتحريك ديناميات متضافرة من شأنها أن تفكك هذا النظام جذريا، وأن تطرح ديناميات مستقبلية لبناء ثقافة سائدة حاضنة لطموح السياسات الجديدة، والأهم من ذلك أنها كانت تربط الإصلاح الاقتصادي بإصلاح سياسي شامل.

وفي هذه المنطقة الصعبة اشتغل الفريق بروحه الوطنية، وإن لم يغب التشاؤم حيال هذا الحلم، لأنه يدرك أن لا نظام تجذر في الاستبداد والحكم الفردي من الممكن أن يسمح بما يفكك بناه الراسخة، غير أنها كانت آخر محاولة سلمية من النخب من أجل تجنيب هذه الجزء من العالم تداعيات التغييرات العنيفة التي كان لا مناص منها في فبراير 2011، ورغم أن حدوس الرؤية لم تذهب لدرجة توقع ثورة شعبية عارمة تسقط النظام، إلا أن كل ما ورد في سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة كان يشي بأن الانفجار قادم إذا لم يُفعّل السيناريو الثاني "تواصل وجود خطر الانفجار الاجتماعي"، "احتقان داخلي بسبب سوء الأحوال الاجتماعية قد يؤدي إلى اضطراب أمن المجتمع" والأهم منذ لك خاتمة هذا السيناريو التي تصف المجتمع بكونه محبطا يائسا مفككا مغتربا مضطربا، ويصف الدولة التي تحكمه بكونها ضعيفة تابعة ومخترقة ومهددة.

وهي مخاوف مازالت حاضرة بقوة لأن سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة مازال فاعلا، ولأن التغيير الذي حدث كان عنيفا واجتث النظام دون أن يغير ثقافته، لم يكن متدرجا وسلميا ونتيجة نضج اجتماعي كانت تسعى إليه هذه الرؤية، وبالتالي فإن من تصدروا المشهد بعد سقوط النظام هم وجه آخر لثقافة هذا النظام، وبالتالي فإن تجاهلهم لهذه المدونة طبيعي لأنها تفكك نظامهم أيضا. وهي المدونة التي كان هاجسها (الإرادة السياسية) حيث تقول في نهاية تقريرها بما يشي بالأمل في المستقبل: "ومهما يكن من أمر تلك المشاكل، يظل الأفق مفتوحا، والرغبة حقيقية، والاستعداد وافرا، والأحلام ممكنة. فهل ثمة ما تبقى سوى الإرادة؟". وللأسف حتى الآن مازالت الإرادة غير واردة.

أعيد التطرق لهذه المدونة لسببين، أولهما: منذ بداية أول سلطة تنفيذية بعد ثورة فبراير وأنا أتابع برامج الحكومات المتعاقبة وصولا إلى برنامج حكومة أدبيبة، وكل برامجها كانت تأتي في سياق سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة والمعالجات الآنية والمسكنات التي يحقن بها الناس، ونحن نرى الآن تكتيك منح الرشى للناس من هبات مالية مؤقتة التي بدأت مع المجلس الانتقالي ومازالت مستمرة حتى الآن. وثانيهما استمرار هيمنة الأيديولوجيا أو بمعنى أصح العقيدة التي تقف عثرة أمام ثقافة النهوض، من عقيدة النظام الجماهيري في ذلك الوقت إلى عقيدة الإسلام السياسي التي تهيمن على معظم السلطات الآن، وتتناقض برامجها تماما مع تحريك ديناميات هذه الرؤية أو مع ثقافة النهوض عموما.