Atwasat

من العتبة إلى الهيلتون

محمد عقيلة العمامي الإثنين 29 مارس 2021, 10:37 صباحا
محمد عقيلة العمامي

زرت القاهرة أول مرة سنة 1963، ولكنني لم أر فندق "النيل هيلتون"، لأنني لا أعرف، حينها، شيئا عنه في الأساس. كانت الإسكندرية هي غايتنا، وإن وصلنا القاهرة فميدان العتبة، ومسارحها الإبداعية، والأخرى الليلية، كنادي صفية حلمي، قبل أن ينتقل إلى شارع الهرم، ويصبح أسمه "الليل"، وقبله "الأوبرج" و "أيروزونا " وغيرها. قلة، من الليبيين، كانوا مهتمين بالمقاهي التي يرتادها رموز الأدب والصحافة في ذلك الوقت، وكنتُ من هذه القلة.

كانت الفنادق الفخمة، التي مررنا، فقط، من أمامها هي فندق سميراميس، الذي هُدم وشيد مكانه فندق الانتركونتننتال، أما فندق "شبرد" فصيانته جارية هذه الأيام. كان فندق السنترال بميدان العتبة وهو وجهة القادرين، من جيلي، على سداد جنيه وربع لليلة الواحدة! أو تأجير شقة مفروشة بجنيهات لا تتعدى العشرة.

فوق أنقاض ثكنات عسكرية كانت مقرآ للجيش البريطاني، تطل مباشرة على النيل، وتضم أيضا المدرسة الحربية التي أنشأها الخديو سعيد، شيد فندق الهيلتون وافتتحه الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1959، وأصبح منذ افتتاحه قبلة أنظار نجوم السينما، والقادة السياسيين، ثم التحق بهم المشاهير من رجال الصحافة والكتاب، والشعراء.

في أواخر الثلث الأخير من شهر سبتمبر 1970 شهد الفندق انعقاد أحد أشهر مؤتمرات القمة العربية الذي خصص لفض الاشتباك بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية، وكان الرئيس الراحل مقيما بالفندق طوال مدة انعقاد المؤتمر، وما إن ودع أمير الكويت، آخر من غادروا الفندق بعد نهاية المؤتمر، ذهب الرئيس الراحل إلى منزله. يوم 28 سبتمبر1970 انتقل إلى رحمة الله.

كانت علاقة ثورة سبتمبر1969 في أوج علاقتها بجمهورية مصر العربية، ورئيسها الراحل جمال عبد الناصر، وما إن أعلنت وفاته، حتى فتحت ليبيا معابرها كافة لسفر الليبيين للمشاركة في أكبر جنازة شاهدها العالم العربي، وذهب الكثيرون من ليبيا. من بنغازي أصر أحد الأصدقاء على أن نسافر معه، وإن كان الأمر ليس بسبب الجنازة فقط، فلقد كانت له أعمال ومصالح، وأنزلنا في الهيلتون على حسابه. كانت تلك بداية معرفتي لمثل هذه الفنادق الفخمة، وما يدور فيها، وأيضا ما هو متوفر بها من فخامة وأماكن لهو، وأشياء كثيرة أخرى. كانت تكلفة الإقامة لليلة الواحدة حوالي عشرة جنيهات، مصرية، وسنة 1970 شيد فندق الشيراتون، وأقمتُ فيه أول مرة سنة 1973 وكانت تكلفة الليلية الواحدة 12.50 جنيه مصري، وكان بمقدورنا، كمجموعة، أن نؤجر شقة مفروشة، قريبة جدا من هذا الفندق، لعشرة أيام بهذه القيمة.
أقفل الهيلتون لسنوات، ومن بعد إجراء الكثير من التجديد والتطوير، أعيد افتتاحه، وغير اسمه، إذ تولت إدارته شركة أخرى وأصبح اسمه (النيل ريتز كارلتون) وأصبح رأس المرء يتوسد مخدة معطرة ناعمة، مقابل حوالي ثلاثة آلاف جنيه في الليلة الواحدة، فلقد دعاني صديق لا علاقة له بحكومات النهب، لمشاركته قهوة عشية، ورأيت كم أصبح بالفعل فخما، ومنه استقيت المعلومات كافة. ولما استدعي لمقابلة أحد زواره، استأذن أن يختلي به. ووجدها خيالي فرصة أن يعود حوالي خمسين سنة إلى الوراء ويستدعي أحداثًا كثيرة حدثت في هذا الفندق منذ أن أبل الرفاق من حزنهم، مؤكدين حقيقة مقالة عجائزنا الشهيرة: "الحزن مع بنات العم فرحة"؛ وتذكرت كيف كان "فتحي" يبكي طوال النهار ويضحك ويضحكنا، بعد غروب الشمس حتى شروقها اليوم التالي. هناك شاهدت الفنانة فاتن حمامة، وعمر الشريف يمسك بيدها ويبتسم في وجهها. وهناك رأيت نجوى فؤاد تمشي، وكأنها ترقص، ومن هناك شاهدت فريد الأطرش، يخرج من باب الكازينو القمار، يضحك رفقة امرأ فاتنة، فهو الفنان الوحيد المسموح له بالدخول إلى الكازينو؛ لأنه ليس مصري الجنسية.
لعلها سنة 1974 ارتبطت بصداقة مع المطرب محمد عبدالمطلب، كان حينها يغني في كازينو الليل، أو "الأريزونا " بشارع الهرم، ومن بعد أن ينتهي من فقرات غنائه الليلية، حتى نذهب سويا، إلى كافتيريا الهيلتون المفتوحة طوال الليل والنهار. وكان يحلو له أن يحتسي قهوته الصباحية في ركن معهود، وأحيانا نتناول إفطارنا معا.

قال لي ذات مرة: "أعتقد أن من صمم هذه الكافيتريا استوحى فكرتها من الجنة! انظر إلى الفتيات الجميلات في زيهن المتصلق بمفاتنهن، وهذه الروائح، والأطباق الفخمة، وسفرة تلك الفواكه.. والتفاح! جنة كما وصفوها لنا".

في تلك الفترة أصبحت كافتيريا الهيلتون حلم الطالبات الجامعيات، خصوصا الجميلات، فالمكان راق والمرتب، وإن كان معقولا، إلاّ أن الإكراميات تفوق كثيرا ما يتقاضاه مدير في أي مؤسسة حكومية، وأذكر أنه صباح يوم عيد كنا مجموعة من الأصدقاء والمعارف، وكانت فتاة جميلة هي التي تخدمنا، وكان أحد الرفاق معجبا بها، فأخذ من كل واحد منا عشرة جنيهات، وقدمها لها عيدية، فشهقت الفتاة وعادت إلينا بمديرها، ليوضح له صاحبنا ماذا حدث؟ فقال المدير له: "يا بيه القيمة مرتبها السنوي! كدا بطرا..!" وضحك صاحبنا وهو يمسد شاربه، وتضحك أساريره وقال مستهلا كلمته المعتاده: "يا حليلي! تستاهل بنك مصر"!

أصبحت الكثيرات من الجميلات المتعلمات والخريجات، يعملن نادلات في كافتيريا الهيلتون ثم الشيراتون، وكن سريعا ما يختفين. وكتب أنيس منصور في مذكراته: ".. وكل الصحف تتحدث عن الجرسونة الجميلة التي تعثرت، صدفة أو غيرها، وسقطت منها الأكواب فوقعت هي على صدر أحد أصحاب الملايين، فتزوجها بعد ذلك..". وقال أن كامل الشناوي، الذي كان من رواد الكافيتريا المنتظمين، قال عن إحدى الجرسونات:
مرت بنا كالطيف تسألنا.

ماذا نريد، فلذت بالصمت.
ودنت تسألني على حدة.
عما أريد.. فقلت لها: أنت!!
أما ماذا فعل المطرب محمد عبدالمطلب، من بعد أن انتقلنا من كافيتريا الهيلتون إلى الشيراتون، فكان فزعة رجل شجاع قلما يراها المرء، فما زلت أذكر كيف اندفع فجاءة ليخلص الممثل الكبير عادل إمام من يدي حارسين جلفين لأحد الأمراء، اعتديا عليه، فيما يبدو بأمر من هذا الأمير. كان عادل إمام حينها في بداية شهرته. ظل عبدالمطلب يصرخ في وجوههم بانفعال: "إيه.. تضربوه في بلدو. أنتوا فكرينا أيه؟ دي بلدو وأحنا أخواته..". يرحمه الله كان من أنبل وأكرم من عرفت. عفيف النفس، شريفا، معتدا بنفسه وببلاده.