Atwasat

هناك.. في الجنة

صالح الحاراتي الإثنين 22 مارس 2021, 10:34 صباحا
صالح الحاراتي

فى صيف يوم حار وفى ظهيرة يوم أظنه الثلاثاء حدث صراخ وهرج فى بيتنا، كنت ألعب فى الشارع؛ أبلغنى رفاقى أن شيئا ما حدث فى بيتنا؛ رجعت مهرولا حتى وصلت عتبة البيت، وقفت مشدوها وأنا أسمع هذا الحوار
* "من لنا يا اماه بعد رحيل والدي" * "ربنا كريم والبركة فيك"..

هكذا كنت أستمع لهذا الحوار الباكي الذي يتم بين والدتي وأخى الكبير، فبكيت مع الباكين..

لم يستوعب عقلي بعد وأنا دون العاشرة من العمر، سبب بكاء من حولي، وما يقولونه حول لوعة الفراق، ولكني كنت أبكي. كان البيت يملؤه النحيب، وأذكر أن جارة عجوز احتضنتنى وهي تبكي بحرقة بالغة فبكيت معها.
كنت لا أفكر في شىء إلا الصورة الذهنية "للجنة" التي كانت طاغية على عقلي، فذهابي إلى "الكتاب" لحفظ القرآن ترك في عقلي صورة نمطية للجنة.. كنت أتخيل سهولا خضراء وأنهارا من العسل والأرائك والقطوف الدانية، التي يتمتع بها أهل الجنة.. بالقطع والدي سيذهب هناك كما سمعت على لسان الكثير من المعزين.

لم أتبين سبب وفاة أبي، ولكني أتذكر أنه كان مريضا، وأذكر أنني زرته في المستشفى مع والدتي، وأتذكر أنه فتح دولاب صغير بجانب سريره وأعطانى حبات من المشمش يبدو أنه لا يحبذه، أو ربما لم يستطع أكله.. عندما كبرت وجدت في أرشيف العائلة صورة تجمعنا معه وهو في المستشفى.

لم أكن أعرف حينها ما سيحدث من إجراءات الدفن ومراسم العزاء.. كل ما أذكره وبعد انتهاء تلك المراسم غادر المعزون إلا بعض الأقارب، وأصبح البيت يخيم عليه السكون؛ حينها جمعتنا الوالدة وكان حديثها فى منتهى الجدية، كانت لها قوة بأس يفتقدها الكثير من الرجال.. قالت الآن انتم يتامى والأب ذهب إلى خالقه، فإن أردتم مستقبلا زاهرا لكم واحترام الناس لكم؛ ليس أمامكم إلا أمران.. الجد كل الجد فى دراستكم والاهتمام بدينكم وأخلاقكم... خيم الصمت على الحضور وعرفت يومها أنني فقدت الحماية وعليَّ أن أواجه الحياة تبعا لما سمعته من أمي للتو؛ كانت كلماتها المختصرة كاشفة وعميقة ونابعة من القلب، فالتقطتها روحي وتغلغلت في عقلي وكانت لي كدستور مقدس فيما أتى بعد ذلك من أيام..

في نهاية الأسبوع في يوم الجمعة يممت وجهي - صحبة أخى الذي يكبرني - شطر المسجد الكبير لأداء الصلاة.. جلسنا فى الصفوف الأولى نظرا لتبكيرنا فى الذهاب.. مع جو الهدوء والسكينة سافرت بخيالى مرة أخرى إلى حيث والدي هناك في الجنة، ومضت صورة الجنة تلقي بظلالها على مخيلتي كالعادة.. رأيت مرة أخرى السندس والاستبرق والأرائك والأنهار والقطوف الدانية.. امتلأ المسجد واعتلى الخطيب المنبر وبدأت الخطبة، أنصت صاغيا لحديثه عن المقربين وأهل اليمين وأنا احدث نفسي سرا؛ لا شك أن والدي أحدهم ومن أهل النعيم.. جلس الخطيب برهة وبدأ الحضور في الدعاء..عاود الشيخ وقوفه وهذه المرة أخد يدعو والجميع يؤمن على دعائه حتى وصل إلى دعائه للحاكم بالتوفيق والسداد وحسن الخاتمة، وختم الدعاء بالرحمة لجميع المسلمين.. انفرجت عندها سريرتي بالرضا لأن والدي حتما مشمول بالدعاء.. أقيمت الصلاة… بعد الانتهاء فكرت في الذهاب للشيخ لكي أطلب منه الدعاء لأبي، كنت أعتقد أن الشيخ أعلم مني وستكون الاستجابة الإلهية مؤكدة. هكذا حدثت نفسي، ولكني ترددت ولم أفعل، وعند رجوعي إلى البيت حدثت والدتي بما فكرت فيه فقالت.. أنت تستطيع الدعاء لأبيك وكما يحلو لك وبالكيفية التي تراها المهم الإخلاص والنية، وتأكد بأن دعاءك مقبول أكثر من الشيخ.

كنت دائما أدعو له بالرحمة والمغفرة والرضوان، ولكنْ شعور ما ينتابنى دائما، بأنه لم يرَ من متع الدنيا الكثير وأنا أتأسف لذلك!! ما يهون علي هو أنني أتمنى أن يكون مقامه فى الآخرة خيرا من دنياه.