Atwasat

المتخيّل

رافد علي الخميس 11 مارس 2021, 09:51 صباحا
رافد علي

لكل مجتمع تجاربه التي عاشها، والتي من خلالها استخلص منها ملاحظاته وعبره فرسم متخيله الخاص به، والذي يتداخل مع أنساقه الثقافية، بما يسمح لأي دارس بأن يرسم خطا فاصلا بين المتغيّرات في ثنائية الزمان والمكان، وفي التطلع نحو آفاق قصيّة تفسر الحاضر وتعزز منظومة الوعي بالمعاش، ولأجل وضع أجوبة لتساؤلات تخص الحقيقة والأسطورة.

المتخيّل في علم اللغة ينصب على الواقع بحيث يكون صورة ذهنية في عقل الفرد أو الجماعة، بعكس الوهم الذي يكون عبارة عن "رؤية قلبية" تكون عادة دون الواقع كما يقول علي المخيلي في مفهوم المتخيّل، إلا أن هذا المعنى للمتخيّل انحرف تدريجيا بسبب تقدم العلوم مع القرن التاسع عشر ليكون مفهوما إجرائيا يعتمد علي دراسة الظواهر الاجتماعية والطبيعية والأعمال الأدبية والأساطير والأديان.

المتخيّل كموضوع في علم التاريخ ينظر إليه اليوم كمادة علمية حديثة نسبيا، مقارنة مع المواد العلمية الأُخرى، ولعل مشكلة تبويب المتخيّل كمادة في علم التاريخ ترجع لسبب أن مرحلة عهد التنوير قد أحدثت قطيعة مع الماضي. فالنخب والمثقفون في أوطانهم كانوا عازمين على بناء كينونة جديدة لمجتمعهم بعيدا عن التقليدية التي تربعت على مفاصل الحياة لقرون. إلا أن ذات العلوم التي دُشنت بالقرن العشرين أصبحت تدرك اليوم أن ما عليه الإنسان من حضارة عالمية ما هي إلا نتاج تراكمات ثقافة وحضارة، فأصبح فتح الأبواب نحو دراسة المتخيل علي عدة أصعدة في مجتمعات مختلفة أمرا ملحا للفهم والمعرفة، وخصوصا في الغرب. لقد أصبحت دراسة المتخيل في الثقافة العربية بوصفه موضوعا تاريخيا أكثر انتشارا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر على حي مانهاتن، بقصد ملامسة بعض عناصر الثقافة العربية وتحليل أنساقها، فجاءت العديد من الكتابات في هذا الاتجاه لمعرفة الغرب في المتخيل العربي، وبالعكس، مع ملاحظة أن الغرب في المتخيل العربي والإسلامي كان موضوعا مطروقا قبل هجمات مانهاتن، من قبل بعض الأسماء بالعالم العربي كدراسة محمد نور الدين أفاية الصادرة آخر التسعينيات.

تعتبر الإيقونوغرافيا، أو علم دراسة الصور، أهم التقنيات لدراسة وتحليل متخيلات المجتمعات السابقة. فللمكتوب أهمية قصوى لمنح صورة أوثق لكون أن المكتوب منتوج مباشر لصاحبه بكل حمولته اللغوية وأنساق ثقافتها، لكن الرسومات الجدارية وغيرها بدور العبادة على اختلافها، تمنح لمحات عميقة وهامة لتفاسير تلك المجتمعات للدين والحياة والموت، والأهم كيف ترى تلك المجتمعات نفسها ضمن رحلة تكّون أنساقها الثقافية، وتشكل نظرتها للحياة، وتكشف أيضا عن حالة الوعي بتلك الثقافة، ومجالات المفكر فيه، ويمكن عبرها اكتشاف مدى اللامفكر فيه. وبناء على هذا كله تنوعت مجالات البحث في المتخيّل، وطرقه وأساليبه، من دون أن نتجاهل شخصية ونفسية الباحث أو الدارس.

من الأشياء المثيرة في دراسة المتخيّل هو انكبابها على فك شفرة "علمنة الفكر الأسطوري" في تاريخ المجتمعات. فقد استطاع جان بيير فرنان وبيير فيدال بدراستهما لنشأة المدن الأغريقية، معرفة كيف استطاع الفيلسوف أن يحل محل الرجل الحكيم العالم بعلم الغيب، واستطاعا أن يكشفا عن لحظة ميلاد التراجيديا وكُتابها الذين يقدمون في أطروحاتهم قضايا السياسة والقانون والمجتمع والأخلاق.

لقد كان لاعتناق أوربا المسيحية أن فتح آفاقا جديدة في رسم وتكوين متخيّلات جديدة، تماما كما فعل الإسلام في شبه الجزيرة العربية، أو حيثما امتدت حدود نفوذه. فالعصور الوسطى هذه بكل ما تضمنته من بروز حضارات، وسقوط أخريات، وبكل ما فيها من حروب مقدسة، وجهاديات وغزوات لازال يلعب المتخيّل فيها دورا حاسما حتى علي مستوى تشكل حالة الوعي، ليس لدى العربي فقط، بل حتى في أطياف مجتمعية أخرى لازالت تعيش بالعالم الليبرالي اليوم. المسيحية الصهيونية كتيار اجتماعي، وكلوبي سياسي واقتصادي يمثل ظاهرة في كواليس السياسية والميديا. فعلم الأديان المقارن، وعلم الآداب يمنحان نوافذ لرسم صورة ُمجردة- عبر المتخيل- عن واقعنا المحشور بين الحقيقة والخيال.

جون ميشيله بدراسته عن المتخيل في سبعينيات القرن الماضي انغمس كثيرا في محاولة فهم حماسة العامة للانخراط في الحروب الصليبية بكل الآمال التي كانت ُمعلقة علي حروب وحشية كهذه، تماما كما هو الحال اليوم في محاولات أبناء العرب عند دراستهم لصلاح الدين الأيوبي وتجريده من هالة الأسطرة، ولجم المتخيّل في سيرته. الدكتور يوسف زيدان له محاولة طيبة في هذا الاتجاه.

الألوان في ثقافتنا العربية، نسق ثقافي تبنى عليه تصورات ذهنية، تعززها اللغة بفروعها المختلفة، فتخلق في خيالنا العربي وتصوراتنا حالة من التمايز بين الأسود وسواه، كما يبيّن نادر كاظم في كتابه "تمثيلات الآخر. صورة السود في المتخيّل العربي الوسيط"، الذي يقدم فيه من التراث مواقف وقصصا ونصوصا تنم عن حالة التميز والاضطهاد، حتى أن السود رضخوا لهذا النسق السلبي تماشيا مع مذهب الجبرية، كون أن سواد بشرتهم حتمية ربانية، فصاغوا في الأدب العربي نصوصا تقبح اللون الأسود، رغم أن الإسلام لا يعير للون البشرة أي أهمية أمام التقوي وفضائلها.

إدريس الخضراوي نشر دراسة بمطلع الألفية حول كتاب تمثيلات الآخر لكاظم، بالمجلة العلمية لجامعة البحرين يقول فيها: "إن كاظم يعتقد أن الف ليلة وليلة من أكثر النصوص تمثيلا للأسود تمثيلا سلبيا، بحيث لا تناظر هذه الصورة السلبية في التخييل العربي سوى صورة الآخر الداخلي الذي هو المرأة". عبدالله محمد الغذّامي في كتابه "النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية" ، يعتبر أن كتاب كاظم يعد حالة لجلد الذات، رادا عليه بعضا من مادته من خلال مبدأ تاريخانية النص، ويرى الغذامي أن الكتاب "كل ما فيه هو إخراج القارئ العربي من راحته النفسية ورضاه عن ثقافته".
وتبرز أهمية أخرى لدراسات المتخيل بشكل عام في مرحلة ما بعد الحداثة، إذ يتم الآن النظر لأي ظاهرة من أي نوع على أنها نص، بما يسهم في تفكيكها ونقدها عن طريق التحليل النقدي الوظيفي، كما يحدث في مقابلة محمد أركون في تناوله لظاهرة الإرهاب والعنف المؤدلج إذ يقابل سياقات التاريخ والحقيقة والمقدس في مواجهة سياقات المقدس والعنف والحقيقة، مطالبا نخب العلوم الإنسانية في عالمنا الإسلامي بالانخراط في عملية تفكيكية شاملة لهذه السياقات لتخصيص حالتنا كأمة تعاني أزمة حقيقية.

رغم كل شئ محبط في عالمنا العربي المليء بالأزمات والانكسارات، تظل هناك بعض الأخبار الطيبة. فلازال المتخيل العربي منوطا بالاهتمام، لا على مستوى مدرسة الاستشراق فقط، بل على صعيد الأدب عند نجيب محفوظ، خصوصا بعد نوبل، بما ينبئ بأن المتخيل السردي العربي قادر على تجاوز حالة تسليع الثقافة بشكلها المجرد.