Atwasat

جدلية اليسار الاسلامي

رافد علي الثلاثاء 23 فبراير 2021, 01:15 صباحا
رافد علي

راجت بفرنسا في الأيام القليلة الماضية ضجة إعلامية بعد تصريحات وزيرة التعليم العالي فريدريك فيدال التي اعتبرت أن اليسار الإسلامي ينخر الجامعات الفرنسية كغيرها من مؤسسات المجتمع الفرنسي، وما كان من عمداء الجامعات بالبلاد إلا أن ردوا على الوزيرة فيدال بأنه لا حاجة "للخوض في نقاش عقيم مجددا يتمحور حول مصطلح وليد مفردات التيار اليميني المحافظ والمتطرف بالبلاد"، معتبرين أن حزب السيدة لوبان اليميني المتطرف هو المخول بتوضيح المقصود بمصطلح "اليسار الإسلامي".

مصطلح اليسار الإسلامي يخرج للعامة بفرنسا لأول مرة متجاوزا حيز النخبة الضيقة بالبلاد، فرد عمداء الجامعات بفرنسا مبني على إدراك أن مصطلح اليسار الإسلامي تعوزه الانضباطية، فهو ليس بالقضية المحسومة حتى بين أهل الإسلام. ففي الشق الفكري بعالمنا العربي والإسلامي هناك من يعتبر أن الإسلام اليساري مصطلح "مفبرك" و "أكذوبة". فالإسلام، بحسب هذا التوجه، دين سابق على مصطلحات السياسة الحديثة من يمين ويسار و وسط، فالإسلام دين "الصراط المستقيم" ضمن مبادئه الواضحة كما يعبر الدكتور مصطفي محمود، في كتابه أكذوبة اليسار الإسلامي. في حين ان نصر حامد أبو زيد يري أن الإسلام اليساري مصطلح "فضفاض" بسبب تغير المواقع بين اليمين واليسار تجاه قضايا الإصلاح والنهضة. فاليسار يعتبر أنه يرتكز على روح تقدمية تطالب بالتغيير والثورة والسعي لإحداث الإصلاح عبر الحرية والعدالة الاجتماعية، بعكس التيار المحافظ الذي يحبذ الإبقاء على القائم كونه أفضل ما يكون، فاليمين يقدس الفردية وملكيتها، ويرتكز على السوق المفتوح. ويقول نصر إن التيارين موجودان بنزاعهما في تاريخنا الإسلامي منذ الفتنة الأولى وحقب اغتيال الخلفاء الأوائل عمر وعثمان وعلي، مع مراعاة أن مواقع المطالبة بالإصلاح تتبدل بين التيارين، فالإصلاح قد يأتي من اليمين ويعارضه اليسار، كما حصل أيام الدولة العثمانية التي أرست إصلاحا سياسيا تمخض عن سن الخليفة عبد الحميد دستورا ملكيا حديثا عام 1876 لأجل رفع الضغط الأوربي عن كاهل الباب العالي بالآسيتانة، ولتعزيز الحريات العقائدية للرعايا الأجانب بالإمبراطورية العثمانية.

بغض النظر عن الجدلية السياسية في فرنسا بين ماكرون وخصومه السياسيين، وأبرزهم السيدة لوبان، التي كانت ندا لماكرون في الجولة التي أسفرت عن وصوله لقصر الإليزيه منذ أعوام قليلة مضت، وجب الذكر أن مصطلح اليسار السياسي قد برز في ثمانينيات القرن الماضي في مصر عبر مطبوعة بذات الإسم، والتي لم يصدر منها إلا عدد يتيم، إذ صدرت الأوامر العليا بالإيقاف بسبب التحالف المعروف بين السادات والسلفية، التي استخدمها السادات لتعزيز نفوده الرئاسي، وللتخلص من خصومه في صف اليسار، الحليف القوي لسلفه جمال عبدالناصر. كان من ضمن كتاب المقالات في مطبوعة اليسار الإسلامي حسن حنفي، الذي عمل طويلا كأكاديمي في جامعة باريس، وقد نشر لاحقا مقالته تلك في مجلده "الدين والثورة في مصر" علما بأن منتصف القرن الماضي قد شهد فيه العرب توظيفا مكثفا لمصطلحي اليمين واليسار عند مناقشاتهم لقضايا السياسة أو الآيديولوجيا، كما أن اليمين واليسار قد وظفا عند تناول توجهات فكرية معينة في تاريخ الإسلام، كما هو الحال في فكر المعتزلة - كيسار- والمذهب الحنبلي- كيمين محافظ ومتشدد-، وهذا يبدو جليا في دراسة "اليمين واليسار في الإسلام" لأحمد عباس صالح في سبعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال لا الحصر.

نصر حامد أبو زيد له دراسة مكثفة حول اليسار الإسلامي، يرجع فيها وجود هذا التيار بعصرنا الحديث لمرحلة مطبوعة العروة الوثقى التي كان يصدرها الإصلاحيان الأفغاني وتلميذه محمد عبده في باريس، رغم أن نصر يوضح بجلاء مدى المرونة الشديدة في مصطلح اليمين واليسار لينطبق على التيارات الإسلامية عبر تاريخها الطويل وصولا لعصر ما بعد الحداثة، مما عاب شكليا النتائج التي توصل إليها في دراسته. الأكاديميان جورج جقمان، وعالم الاجتماع إياد البرغوثي من أبرز من عقب على دراسة أبوزيد "اليسار الإسلامي إطلالة عامة".
بغض النظر عن السجال السياسي الجاري بفرنسا حول اليسار الإسلامي هذه الايام بين ماكرون وخصومه في اليمين المتطرف، وجب التنويه إلى أن هناك أسلمة تجري في بعض الأحياء بالبلاد يقودها التيار السلفي، بما يعرقل سياسة التفاعل المجتمعي بين الوافد والمضيف، والتي لاتزال تعاني من مشاكل وصعوبات حقيقية منذ إعلانها زمن الرئيس ميتران، كما أن بعض المؤسسات الإسلامية بفرنسا كانت على مدى سنوات طويلة تحصل على الدعم المالي واللوجيستي من دول عربية دون أن تعلن عن هذا الدعم، مما سبب حالة عامة من عدم الرضى والثقة، إذ تمدد التيار السلفي المتشدد بشكل واضح في صفوف المهاجرين من عرب ومسلمين، وانزلقوا في العنف والدم بما عزز ظاهرة الإسلاموفوبيا، رغم أن عالم الاجتماع الفرنسي د. رافائيل ليوجيه ينفي ذلك في كتابه "أسطورة الأسلمة".

اليمين المتطرف الفرنسي حينما يستخدم مصطلح اليسار الإسلامي بكل مطاطيته، فهو يهدف لمقارعة الأصوات الأكاديمية التي تدافع عن الإسلام، وأتباعه كمواطنين، لهم حق المساواة المكفولة قانونا لجميع الشرائع بالجمهورية الخامسة، فجميع الفرنكوفونيين يتذكرون الحوارية الساخنة في آخر اكتوبر الماضي، على أثير تلفزة C News الفرنسية، بين الإعلامي اليميني المثير للجدل إريك زيمور والاكاديمي الفيلسوف ميشيل أونفري الذي دافع عن الجالية المسلمة من جهة، وفند الاتهامات الموجهة للقيم الإسلامية ضمن منظومته العقائدية والفكرية، التي تنادي بالوسطية والسماحة والطهارة وتقديس الأسرة وحب العمل وتحريم الربا والدعوة للعيش المشترك. كانت هذه الحوارية ضمن برنامج وجها لوجه لصالح أثير ذات القناة التي جاءت منها تصريحات وزيرة التعليم العالي مدام فيدال بخصوص اليسار الإسلامي.

يرى الكاتب الجزائري حميد زناز أن تحالف مواقف اليسار مع الأصولية الإسلامية المنهمكة في أسلمة الأحياء الكبرى المكتظة بالمسلمين بفرنسا، يرى ان اليساريين يقدمون أنفسهم دائما في طليعة اللائكيين حين يتعلق الأمر بالديانة المسيحية، ولكنهم يمارسون الصمت وهم يرون الإسلاميين يحتلون ضواحي المدن الكبري الفرنسية، ويهددون العيش المشترك. ويشدد زناز في مقالته "كيف صار اليسار حليفا للإسلاميين في الغرب" المنشورة عام 2017، أن اليسار قد عجز عن تغيير العالم، فصار يذعن للواقع كما هو، متحصنا بغفلته الفكرية عن فهم الأصولية وروح التشدد في الإسلام، ويبتعدون عن مسألة النظام الآيديولوجي للإسلام المعاصر.

إن جدلية اليسار الإسلامي من قبل حكومة ماكرون ليست عنصرية الروح بنظري المتواضع، رغم اعتبارها كذلك في العالم الإسلامي بسبب التصعيد الإعلامي والتوتر الدبلوماسي بين أنقرة وباريس إثر تصريحات ماكرون التي تتهم الإسلاميين بفرنسا بنهج "الانفصالية"، فجدلية ماكرون مع اليسار الإسلامي باعتقادي، تأتي كتدابير في مقارعة نهج حزب التجمع الوطني المتطرف- الجبهة الوطنية سابقا- في ميدانه السياسي، من خلال تقديم بدائل وتدابير لما تطرحه زعيمة الحزب السيدة لوبان في قضايا الهوية الوطنية، وضيق سوق العمل بسبب الوافد والمهاجر، والهجرة وخطر الأسلمة لفرنسا. فاتهامات وزير الداخلية الفرنسي لليمين المتطرف بالبلاد قبل أيام، والمتزامنة مع قضية اليسار الإسلامي، بـ "التساهل مع الإسلاميين" أثارت جدلا قويا في الوسط الإعلامي والمثقف بباريس، اتهام يصب في خانة أن ماكرون وحكومته تناور ضمن نطاق، وفي مجال اليمين المتطرف، بما سيدفع التيار المتطرف لرفع نبرة العنصرية في خطابه العام للفرنسيين، بدل المناورة مع ماكرون بذات المدى والعمق في نفس القضايا، بما سيرفع عنه شبهة العنصرية أوالإسلاموفوبيا، ويضع بالتالي اليمين في خانة أكثر تطرفا، بما سيبعد الناخب المعتدل عن حزب لوبان.

فالإسلام والرهاب منه صارا ورقة انتخابية تستخدم على نطاق سياسي واسع وبشكل مألوف في أي انتخابات تجري اليوم تقريبا كما هو معلوم، وما استحضار مصطلح اليسار الإسلامي بكل الضبابية فيه إلا حلقة جديدة لذات الأسلوب وبعنوان أكثر إثارة.