Atwasat

صحيفة النبي... تجاهل تاريخي أم عزوف منهجي مقصود!؟.

رافد علي الجمعة 12 فبراير 2021, 11:35 صباحا
رافد علي

المرجعية التقليدية العربية في مقارعتها للعلمانية باعتبارها تغريباً وحلاً مستورداً، تقترح كبديل لمفهوم العقد الاجتماعي صميم اللائكية أو العلمانية بتفاصيلها المدنية الحديثة، تقترح عقد البيعة أو الإمامة كنظرية تفسر أصل الاجتماع وأصل الدولة معاً على أساس نظري محافظ يستند علي منهجية القرون الوسطى في تفسير وجود الحاجة لتأسيس الدولة. فمن وجهة نظر هذه المدرسة المحافظة باوربا حينها أن الإنسان أيقن بأنه صار ازاماً عليه أن يعيش مع آخرين في نظام اجتماعي يسوده التعاون بحيث تطورت الأمور البشرية من وحدة الأسرة فالقبيلة متعاونة مع أخريات وصولاً إلي تجمعات بشرية تعمل لتأسيس دولتها "مدينة في شكل أدني".

ورغم انتقاد الفكر الأوربي للأثر المحافظ لهذه النظرية الكلاسيكية ضمن مدارسهم المتنوعة أكاديمياً وفكرياً في أنها "نظرية ترسخ الواقع وتقفل آفاق تغيره"، فقد حاولت المرجعية الكلاسيكية العربية التعايش ضمن هذه النظرية من خلال قراءة متعمقة وتحليلية في بيعة العقبة (الأولى والثانية)، التي أسس عبرهما الرسول الكريم مجتمعه متعدد الثقافات، ونُصّب من خلالها ولياً للأمر في المدينة "يثرب" وفق وجهة نظر التوجه الإسلامي. هذا المنطلق السائد لدينا وجهت له انتقادات عديدة من قبل مدرسة الاستشراق، وكذلك من قبل بعض رجال الفكر المعاصر بالعالم العربي كما هو عند شحرور والجابري وطرابيشي وغيرهم علي اختلاف مناهجهم الفكرية، فإلى جانب النقد الغربي، فهي تظل محاولة عربية أو إسلامية معيبة تنظيراً من جهة، وانتقائية من جهة أخرى.

فهي معيوبة تنظيرياً باعتبار أن البيعتين كانتا منفردتين زمنياً عن بعضهما بحيث تفصلان ركن الاجتماع وركن الحكم، وليس كما في نظرية العقد الاجتماعي التي تحبك الشقين معاً في مد نهضوي ثوري لأوربا غيّر مجريات التاريخ ومفاهيمه.

وتبدو حالة الانتقائية في التنظير الإسلامي هنا منصبة بشكل أساسي على الإمامة والبيعة لها، علي حساب حدث تاريخي أقدم من البيعتين ويحاكي المعاصرة. فمن المثير للاهتمام هنا هو أن ندرك أن الفكر العربي أو الإسلامي التقليدي المهتم بالسياسة - وخصوصاً الإسلام السياسي- يغفل أو يُغيّب صحيفة النبي المعروفة تاريخياً بـ "الصحيفة". وهي وثيقة هامة ضربها المصطفى بعد وصوله للمدينة مهاجراً في السنة الأولي للهجرة عام 623 م بين اليهود والنصارى وأهل الإسلام. وقد تناول المؤرخون والمستشرقون هذه "المعاهدة" أو الصحيفة بأسماء مختلفة، إلا أنها اشتهرت في تعاطي المعاصرين لها اختصاراً باسم "صحيفة النبي" أو "صحيفة يثرب"، وذلك تماشياً مع روح العصر الحالي المغرم بالاختصارات والمصطلحات، مقارنة مع تسميات ابن القيم وابن كثير على سبيل المثال في تأريخهما لهذا "الميثاق".

عند الاطلاع على بنود هذه الصحيفة بنظرة تحليلية صرفة، يتبيّن أن ميزة هذه الصحيفة تكمن في كونها تشمل معاً الشق الاجتماعي والسياسي بشكل متناغم، بعكس حالة البيعتين الأولى والثانية اللتين تتناولتا كل شق علي حدة. فالصحيفة تحدد "أمة" المدينة، وتكفل حرية الاختلاف، والمحافظة على أعراف الديات ومنحها، وحسن معاملة الأسرى، والعمل علي تحريرهم والعدل في افتدائهم، وحرية التعبد، وإقامة حالة التضامن المجتمعي بين المؤمنين جميعاً، وترسخ الدفاع المشترك علي المدينة، وتُنصب عليه السلام مرجعية الفصل في كل النزاعات لـ "أمة" المدينة، إلى جانب غيرها من تفاصيل التعايش المشترك ضمن 52 بنداً، بما سمح لبعض الكُتّاب اليوم بإطلاق اسم "دستور" عليها بدلاً من "معاهدة".

ومن اللافت للنظر أيضاً، وبذات النظرة التحليلية لهذه الصحيفة مراعاة لتاريخ تحريرها أو صياغتها، فنجد أنها تنصب على ذات الروح "الثورية " لما عرف لاحقاً بأوربا بنظرية العقد الاجتماعي عند عالم الاجتماع الفرنسي إميل دور كايم باعتبارها تجاوزاً للواقع الكلاسيكي المترسخ في أسس قيام الدولة بالعصور الوسطى حسب ما يعبر الجابري في كتابه نقد الحاجة للإصلاح. فالصحيفة تتخذ من الحاجة للإصلاح وللتغيير أساساً، ومتعدية بذلك لحالة الاكتفاء بالقول أن الدولة كانت استجابة لحاجات الطبيعة كما يرى جان جاك روسو وأنصار مدرسته الطبيعية.

من وجهة نظري المتواضعة، أعتقد أن التركيز على الإمامة والبيعة لها في تراثنا، هو ما سوغ للرأي السائد بثقافتنا القبول بالإمام أو السلطان أو الخليفة مهما كان ظالماً، والترويج لعدم الخروج عليه، لأن الإمامة تأتي أولاً، في حين أن الركن الاجتماعي في نظرية الإمامة يبقى مبعداً، أو يأتي ثانياً، مالم نقل أنه ليس محل نظر. فالركن الاجتماعي ضمن نسق نظرية الإمامة والبيعة مستبعد بسبب أنه منصب على الرعية التي لا تملك من أمرها شيئاً بالمعنى العميق للبون الشاسع بين القمة والقاعدة أو الجمهور بتلك الحقب الزمنية. ولعل هذا القول يمنح لنا تفسيراً أو مبررات لحالة عدم تطور مبدأ الشورى في الإسلام، لأنها ظلت دائماً قضية محصورة في استشارة الحاكم لمجلس شورته المعين بشكل خاص، أوعن طريق لجوء الحاكم لمشورة المقربين في البلاط، بما يبعدنا عن فكرة المواطنة المعروفة اليوم بعالمنا، وتبرهن بذلك نظرية الإمامة والبيعة، باعتقادي البسيط، على أن مبدأ المشاركة في صنع القرار من الأشياء اللامفكر فيها في تراثنا الإسلامي، مالم نقل إنها قضية تظل مسكوتا عنها بتراثنا في أيامنا هذه.

من هنا يمكننا القول إن إعادة النظر في المطروح فكرياً، حسب نهج شحرور، أو في تفكيكه كما ينتهج الجابري، بل وانتقاده وفق أسلوب طرابيشي؛ يعتبر عملاً هاماً اليوم لأي مشروع نهضوي في عصرنا الحالي المأزوم بنا وبأطروحاتنا المؤدلجة بتكيفات الآيدولوجيا أو محاكاة المعتقدات الحديثة بأساليب ترقيعية. ولعلها فرصة طيبة لدعوة أنصار اﻹسلام السياسي تحديداً لمراعاة أهمية هذه الوثيقة التاريخية بدلاً من الركون للإمامة والبيعة فقط، وبعدم الاستمرار في تجاهل فكرة الشورى التي يعد الفكر الإسلامي حتي الآن عاجزاً عن تطويرها بشكل حديث وعصري، تنخرط فيه "الرعية" في صنع القرار، بدل القفز إلى مفهوم المواطنة كشعار سياسي فضفاض في خطاب إسلامي مفتوح، يرفع تارة هنا، وتارة هناك، بلا روح حقيقية ومتأصلة. فالمرجعية الكلاسيكية عندنا اليوم تقف عاجزة ومتشددة بما لديها بافتقار صارخ للغور في تفاصيل تاريخية هامة ومحورية كمادة هذه الصحيفة، ولتظل هذه المرجعية الإسلامية بكلاسيكيتها مصرة على عزوفها، ومتصلبة تجاه تجديد نفسها من خلال التغافل أو الإبعاد المقصود لبعض المعطيات والتفاصيل التاريخية الهامة لسبب أو لآخر، بحيث تكرس الاجترار المعرفي المفصول عن عمد أو سواه، ويقلل من روح الاجتهاد والابتكار، طالما أن كل ما يطرح من خارج الصف الديني أو المحافظ يعد عندهم تغريباً أو كفراً، وبما يجعل الانطباع العام أن الهدف الأساس للصف الإسلامي هو تسمية خليفة ورفع بيعة له على مضض سياسي بحت، بلا أي مراعاة لفكرة أن المفاهيم تتحرك طوع الزمن الذي يفرض على الإنسان حاجاته ومتطلبات عصره.