Atwasat

انتخاب بلا تزوير

نورالدين خليفة النمر الإثنين 01 فبراير 2021, 12:37 مساء
نورالدين خليفة النمر

كان من حظ دائرة حي الظهرة في سنة 1964 أن تنجو من تهمة التزوير دون غيرها من الدوائر الانتخابية في العاصمة الملكية طرابلس. التي جرت فيها الانتخابات العامة بهدف اختيار المترشحين للبرلمان. النجاح في أغلبه تُرجعه المجتمعية "السوسيولوجيا" التي تهتم في جانب منها بالبحث في الانتخابات، حسب ثلاثة معايير، أو بناء على ثلاثة ميكانيزمات، أو في ثلاثة مستويات أساسية: المنافسة الانتخابية إحداها كشرط حيوي في كل انتخابات ومؤشر لقياس مدى ديموقراطيتها.
تقدّم للترّشح عن الظهرة كامل حسن المقهور المنغرس عائلياً في الحي المشهور بشعبيته، ونافسه عبد الحميد مختار البكوش، عائلته طارئة بسبب النزوح البادئ في ثلاثينيات القرن الـ 20 على النسيج المجتمعي الظهراوي من مناطق التخوم كترهونة وعكارة والختنة والعلاونة والرقيعات التي تبعد براريهم 40 كيلومتراً وأزيد قليلاً عن مدينة طرابلس. غير هذا الفارق يتفق المترشحان في معيار الكفاءة الانتخابية الذي حدّدته السوسيولوجيا للترشح الفردي المستقل بسبب منع الأحزاب بمرسوم ملكي نتيجة الاضطرابات التي حاقت بأول انتخابات بعد الاستقلال عام  1952

في 1964، أجريت انتخابات جديدة في ليبيا. حُظرتْ فيها كسابقتيها الأحزاب. ولكن حضر فيها المستقلون الذين كان منهم معارضون كالصحفي علي وريث عن حي بلخير والشيخين السياسيين محمود صبحي عن شارع ميزران، ومحمّد الماعزي عن شارع بن عاشور، والكاتب الذي كان خطيب حزب المؤتمر الطرابلسي علي مصطفى المصراتي عن شارع الصريم، تمكن بعضهم لأول مرة من الوصول إلى البرلمان، وأسقط آخرون بسبب التزوير في الأصوات، والعبث من قبل جهاز البوليس بصناديق المترشين، والتلاعب بأصوات المقترعين. لكن مؤشر الانتخابات، بكل المثالب التي ألمّت بها، يُظهر وعيا اجتماعيا بدأ ينمو في تلك الفترة، وإلى حدٍّ ما تعاطياً سياسياً ناضجاً من الحكومة. لكنَّ مرسوماً ملكيا استثناياً أعاد الأمور إلى مصير الانتخابات السابقة بإسقاط الجنين الديمقراطي قبل أن يولد، حيث أمر بإلغاء الانتخابات وحل المجلس النيابي داعيا إلى انتخابات مبكرة يتم إجراؤها بعد سنة.

تعتمد سوسيولوجيا الانتخابات في المراكز الديمقراطية القارّة معيار الكفاءة في المنافسة الانتخابية، وتطرحه شرطاً لجدارتها و مؤشراً لقياس مدى نزاهتها، فلا معنى لانتخابات الأحياء التي تتقاسم دوائر انتخابية دون وجود متنافسين اثنين على الأقل، والمنافسة بينهما تكون في البرامج و المشاريع، وهذا ما يحتم وجوب إتاحة الفرصة بالتساوي لكل المتنافسين والمترشحين، في المدينة الكبرى للدعاية لبرامجهم السياسية ومشاريعهم المجتمعية، دون منع أو مضايقة لأي مرشح فرد مستقل كما كان في الانتخابات الليبية الستينية في القرن الـ 20، أو حزب أو لائحة، في كل انتخابات حتى يتمكن المواطن من الاختيار بين عدة مترشحين وعدة أحزاب وعدة برامج ومشاريع، حسب مصلحته وتصوره و ميله السياسي والفكري.

معيار الكفاءة الانتخابية تمثل في مترشحي الظهرة، فهما شابان، ويحوزان مؤهلاً جامعياً في القانون، ومحاميان أتبثا جدارتهما عبر مكتب محاماة خاص. والمقهور تجاوز المحاماة ليكون كاتباً، وضع بصمته الواضحة في القصة الليبية، والبكوش أظهر موهبة شعرية لافتة وثقافة وجدت صداها في أوساط الكتاب والأدباء. بل كلاهما عُرف بتبنيه أيديولوجيا اليسار في نسختها العربية والعالمثالثية. فالبكوش الذي لم تظهر وقتها ميوله الفكرية واضحة في كتابات، كان يقدّم نفسه اشتراكياً، بل لم ينف عنه يساريته، وهو يتولى رئاسة الحكومة الملكية عام 1967 فيما أورده القيادي الفلسطيني صلاح خلف أبو أياد، في كتابه "فلسطيني بلا هوّية"، إذ كتب أن مرافقه فاروق القدّومي "ذكرّ عبد الحميد البكوش بسنواته الطالبية في جامعة القاهرة عندما كان مناضلا شيوعياً". أما المقهور فميوله اليسارية أعلن عنها مبكراً لدى عودته من جامعة القاهرة إلى وطنه عام 1957، في مقدمته الفكرية الطويلة التي كتبها للديوان الأوّل لصديقه الشاعر علي الرقيعي "الحنين الظاميء". أما انحيازه إلى الوطنية الليبية المعارضة فتظهر بإشارات جلية في قصص مجموعته الثانية "الأمس المشنوق".

الذين راقبوا مجرى الانتخابات بوعي يُرجعون السبب في دعم الحكومة لعبد الحميد البكوش للخلفية المهنية المتعلقة بوظيفته مستشاراً قانونياً للشركة البترولية البريطانية (برتش بتروليوم)، ليس فقط محامياً عن مصالحها في النفط الليبي، بل رافق وفداً من الشركة في زيارته لإبرام عقود مع مشيخة أبوظبي عام 1961م. ويؤكدون رأيهم بتسميته وزيراً للعدل في حكومة رجل بريطانيا محمود المنتصر الثانية التي تشكلت لتهدئة الاضطرابات التي أملتها الأحداث التظاهرية الدامية الموّثقة تاريخياً بـ 14 يناير عام 1964 .

لم يُنتبه تاريخياً للمفارقة التي وقعت في الدائرة الانتخابية في حي الظهرة، بأن ينافس على عضوية البرلمان يساريا يساريٌ من نفس توجهه تدعمه حكومة يمينية ليكون مرشحها الكفؤ للمنافسة؛ بل الفوز في أكتوبر عام 1964 بمقعد في البرلمان، ليكتسب فيما بعد صفة رجل الدولة، وزير العدل في ثلاث تشكيلات وزارية ورئيس الحكومة وهو ماعبر عن نقلة شبابية فارقة ومؤهلة لتجديد الملكية لتواكب معطيات الدولة الحديثة. وبهذه النتيجة تجاوزت الظهرة عقبة انتخابات مزوّرة. ولكن التزوير سيطال العملية السياسة، ويُبهظها بعدم الوضوح والشفافية. ليس في السياسة، ولكن في المجتمعية السياسية المتكونة من مترشح، ومقترع يُدلي بصوته لانتخابه، لتستبد بهما متغيرات البنية التحتية التي تنعكس بالتزييف في البنية الفوقية .

كتاب القيادي الفلسطيني الذي بلاهوية، يكشف السياسي الليبيى الذي تمشّت هوّيته الجديدة مع الواقعية المنافعية "البرجماتية" التي يتجاوز بها جمهور الظهرة الذي انتخبه دون منافسه واصفاً تعلّة تعاطف الليبيين بالمظاهرات التي صوّرت في قصص الأمس المشنوق مع القوميات والراديكاليات ـ كما ورد في الكتاب ـ بـ "شعبٍ من الحمقى". إلا أن الراديكالية لاتتراجع بتطرّفاتها فتتغوّل في صفوف صغار ضباط الجيش الليبي الذين في معطمهم ريفيون. فينجحون في سبتمبر 1969 في إسقاط الملكية، وبالتالي مشروعها للبلورة النخبوية التي لاتوجد مجتمعية لها فيما سمّي بمشروع الشخصية الليبية، الذي يرى يوسف القويري أبرز من كتبوا في ترويجه بمقالاته الصحافية بأنه المفهوم الذي أنضجته الضرورة التي أنهت الاقتصاد الطبيعي الخاص بالقبيلة، فوجدت نفسها شبه معدومة الفاعلية، بواقع الأجيال الجديدة من أبنائها الذين خرجوا بالتعليم والعمل خارج أسارها الذهني والمجتمعي، فلم يبقَ للقبلية في وجدانهم إلا أثر روابط العشائرية والقًربى .

وإزاء كل المثالب والخسارات التي منيت بها الانتخابات 52 ـ 60 ـ 1964.إلا أنها أبرزت المعيار المجتمعي "السوسيولوجي" الذي تحقق في دائرة "الظهرة" وهو المنافسة الانتخابية، من خلال وجود متنافسين حقيقيين عن الحكومة والمعارضة يسعيان إلى الوصول إلى مركز صناعة القرار السياسي، في إطار منافسة تحققت فيها بعض اشتراطات ديمقراطيتنا .