Atwasat

أفكار وعضلات

رافد علي الإثنين 01 فبراير 2021, 08:58 صباحا
رافد علي

حمأة الفكر حالة استثنانية يعيشها الإنسان في ظل المعاناة، فالأمر الطبيعي أن يعيش البشر منشغلين بشئونهم الحياتية الاعتيادية بلا عناء إضافي وهو ممارسة الفكر، فالأفكار عملة نادرة، فليس صحيحاً أن الأفكار متوافرة حيثما كانت الناس والشهادات العليا والجامعات واللغة المكتوبة. تاريخ الأفكار يبيّن هذا الطرح ضمن سياق تاريخ الإنسان ذاته. فالأفكار المنبثقة من تصورات جديدة للمعاش لتزيل سابقا وتقيم

واقعا جديدا هي من الندرة بمكان شديد البروز في تاريخنا الإنساني.

عالمنا الإسلامي في سقوطه الحضاري لازال يرتع في صحراء الفكر، فلازلنا نتمسك بالفكر القديم، ونصر على أن الاجتهاد باب بدع، بل مجاهرة بالخروج عن الملة، وكأنها حالة لتعزز العزوف عن التفكير وإعمال العقل في عالمنا القائم اليوم على العلم والتقنية القاضيين بسهولة على المسافة واختصار الزمن. فالأفكار لا تعطي نفسها مجاناً، ولا بسهولة لمن أراد. مالك بن نبي يقول "لنحي الفكرة قبل أن يقتلها الوثن". الفكرة التي ينادي بها المفكر المعاصر هي جزائر حرة ومستقلة، وقد صاغ نداءه من بؤرة معمعة الفكر "الذي لا يلجه إلا من جرح جرحاً عميقا فخسر معه كل شئ" ، والوثن عند بن نبي هو الجهل وعدم الوعي. بن نبي الذي تشرد في غربته، لم يتشرد لأجل اللقمة فقط، بل من أجل الروح، فقد نهل من منابع الفكر لأجل أن يبني وعيه المستقل والمحايد عن صيغ الفقه الديني كمسلم، وغير منجر نحو التوجهات التغريبية كمتفرنس بحكم القانون، فحيثما توجد الأفكار وجب الذهاب إليها لأنها حالة تعاطٍ مع الواقع المعاش ببؤسه، لأجل أن تطرح الأسئلة عليه. فالأسئلة مستترة في عباب واقع الكبت، الذي ُينصب فيه بعض من البشر أنفسهم حراساً على الواقع فيجرم السؤال، ويمنع الاقتراب من نطاقه. ترسانتنا الفكرية مطموس فيها السؤال لأنها أضحت قدسيات معززة بالإرهاب المعنوي في أقل التقديرات، رغم فداحة السقوط الحضاري المعاش، ورغم أنها ترسانة ُبنات أفكار لبنيات مدرسية صاغها بشر أولاً واخيراً.
إن الانكفاء على أفكار قروسطية من أول معضلاتها، كأفكار واجتهادات، أنها ترسانة قديمة بحكم العمر، ورجعية نظرياً أو فكرياً بسبب عامل الزمن ومقتضيات العصر. زد على ذلك أن مفاهيمنا اليوم، في جزء منها لم تنضج بشكل حيوي، كمفهوم الشورى مثلاً، كأداة للحكم. فـ "أمرهم شورى بينهم"، الأمر في الآية الكريمة منصب علي العموم دون النخبة بالمعني العام، فالآية ليست من المحكمات حسب الفقه الإسلامي و مرجعياته الدينية في الأزهر أو في قم.

المعرفة اليوم امستشاء سييتعززمعها الفكروتفتح آفاقا حياتية جديدة، بمايبعدعنا ِخصلة الاجترارالذي يعيبنا كثقافة، ويستنقص من مداركنا كبشر، فالتاريخ، كعلم، يمنح أبناء الحاضر سبيلاً للاطلاع كيف كان السابقون يحلون مشاكلهم ضمن سياق حياتهم وملابسات ظروفهم حينها، فالحياة ذاتها طريقة لنقد الذات. فأمام واقعنا المتردي، كشعوب عربية وإسلامية حاضراً، لنا من المشاكل ما يتطلب حلولاً عصرية تستوجب إعمال الفكر والتفكير والمعرفة، عوضاً عن اللجوء الأعمى لحلول عتيقة نحجبها عن الاجتهاد والتجديد والعصرنة، لأنها من المقدسات اعتباطاً. آركيولوجيا العلوم أو المعرفة، مفردة غائبة في الخطاب الديني المسلم المعاصر، لأنها مما سيشكل باعثاً للسؤال المخشي منه أن يطرح، فيكفينا أن الخطاب الديني الأصولي لا يزال يجادل بأن الأرض منبسطة، وليست شبه كروية الشكل!!. فكيف للمرء أن يتعامل مع هكذا عقلية، وهي المسيطرة اليوم على التيار الديني برمته بأوطاننا المأزومة بنا، في عصر بات عنصر التقنية والإثبات العلمي من ركائز تفاصيلنا؟!. وكيف لذات المرء أن يفهم هكذا تيار بأن المصنفات العربية التي تشرح مفردة "دحا" أو "دحيه" بأنها تعني الانبساط في الأرض، بأنها مصنفات ليست ذات حقيقة ثابتة لوجود إخلال شاب المصنفات اللغوية العربية انطلاقاً من عصر التدوين؟!، بل كيف تجادل هؤلاء الأكارم بأن مفاهيم العصر كالتسامح، لازالت من الأفكار- وليست كمفردة- بمنظومتنا التراثية التي يعوزها التأصيل، تماماً كما كانت ذات المفردة–Tolerance-غيرمؤصلة بالفقها لاوربا أثناءعهود الحرب الدينية التي اشتعلت بين الكاثوليك والبروتستانت في القارة، كما تثبت كل التحاليل الأكاديمية حول مقالة Discours de la servitude voluntaries أو العبودية الطوعية للقانوني الشاب لإيتيان دو لابويسي في حينه. لابد أن سيادتهم سيجادلون حتماً برمي كل ما هو أعلاه لينادوا بالحاكمية لله لحسم النقاش، وإخراس الأفواه.

الحاكمية لله كمفهوم سياسي، من أفكار التيار الإسلامي المتشدد الجديدة نسبياً، فقد صاغها الشيخ الإسلامي الهندي/باكستاني أبو الأعلى المودودي بالنصف الأول من القرن الماضي، وبفترة الستينات من ذات القرن استحضرها سيد قطب في كتاباته صائغاً إياها بروح التشدد. يختلف تأصيل الحاكمية لله في التاريخ الإسلامي من طرح لآخر، فهناك من يرده لعهد الخوارج حين خروجهم ضد الخليفة علي، ومنهم من يدفع به إلى ما قبل ذلك كما يبين محمد شحرور في "الدين والسلطة".
الحاكمية لله، أو "الخلافة الإلهي" كما يسميها الشيخ المودودي في كتاباته المترجمة إلى الانجليزية من الأردية، لغته الأم، ترمي أساساً، وأولاً وأخيراً، لقيام دولة تيوقراطية، أي دينية صرفة، لا علمانية، ولا قومية ولا ديمقراطية، كما يبيّن المودودي بنفسه في كتابه نظرية الإسلام السياسية، وهو كتاب مترجم للعربية وإلى الانجليزية، وطبع لأكثر من مرة بالمملكة السعودية.

من ضمن الردود الموجهة لنظرية الحاكمية الإلهية في طرح المودودي أنها تضع الحاكمية لله مقابل الحاكمية البشرية، ثم تقوم بنسف الأخيرة في نسق مبني على مبدأ الثالث المرفوع، كما يقول حسن حنفي في كتابه الدين والثورة في مصر، إذ يطرح المودودي الحاكمية لله بلا أي مساومات ولا أي تساهل مع الطرف الآخر البشري، الذي عليه وفق المودودي أن يكون عبداً طائعاً، لا يد له في سن التشريعات كسلطة، ولا في تعديلها أو تحديثها. الشيخ صلاح الدين خدابخش أوضح أن الحكم الإسلامي معيب من ناحية الحاكمية لله، إذ لا تمتلك الحكومة المسلمة أي سلطة تشريعية، مما سيضعف وجودها أمام سواها في الغرب، أي الدولة الحديثة بالغرب، أو "الدولة الفكرية" حسب أوصاف المودودي للدولة الحديثة في معظم كتاباته حول الحاكمية والدولة. الحاكمية الإلهية عند أبي الأعلى تبقى وليدة معاناته مع الاحتلال الإنجليزي للهند وسليلة مقاومته -كمسلم- لتهنيد المسلمين، ولمقاومة سطوة الأغلبية الهندوسية علي الأقليات، لذا طرح فكرة الدولة الإسلامية، رافضا الدولة العلمانية ،لأنها تقوم علي عزل الفرد عن دينه وتحصر الفرد في علاقته مع ربه في طقوس وعبادات. ولا يقبل المودودي بالدولة القومية التي تجمع أعراقا ومذاهب وشرائع مختلفة لأنها ستعيش دائما على شفير النار والصدام، ولا يقبل ذات الداعية بدولة ديمقراطية لأنها تربي الفرد على الشهوة والمصلحة. شخصنة القضية في صيغة نظرية الحاكمية عند المودودي جلية كونها وليدة تجربة حياتيه مريرة خلقت نوعا من الانغلاق النفسي تجاه الغير، بطريقة لا تخلو من التطرف، بل إن المودودي وبدون مواربة في الطرح يميل للتطرف والعنف حينما يصوغ أفكاره في أن " الإسلام فكرة انقلابية" تسعى للإطاحة بكل ما هو سواها في هذا العالم حسبما َحا َضر في أتباعه تحت عنوان "منهاج الانقلاب الإسلامي"، وقد طبعت هذه المحاضرة لاحقاً عن لجنة الشباب المسلم للتأليف والترجمة والنشر بمصر. فالفكرة في سياقات أفكار الشيخ المودودي بقدر ما هي مربكة وعنيفة، تبقى بنظري المتواضع، أطروحة معوزة للواقعية وللرحمة وللـ "تسامح"، وتجعل الدولة المزعومة عنده بلا سلطان لها علي التشريع وتنظيمه، وترمي بهكذا "طموح" لديه ولأتباعه في غياهب لا نعرفها بعد، لأن الحاكمية كنظرية لازالت محل جدل نظري في الصف الإسلامي ذاته، كونها حديثة النشأة، ولازالت تتضارب فيها الآراء والاتجاهات نظرياً، كما هو الحال عند دكتور فتحي يكن في لبنان، ومحمد حاج حمد في السودان. أما من حيث التطبيق على الأرض فإن من َطبق الحاكمية الإلهية فهي أنظمة سيئة السمعة عالمياً في َممارستها الوحشية والاستبدادية كطالبان أولاً ثم تلتها داعش، أما جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد،
والمعروفة بـ "بوكو حرام" فحدث ولا حرج.