Atwasat

متاهة (ما فوق الدستورية)

الهادي بوحمرة الأحد 31 يناير 2021, 11:54 صباحا
الهادي بوحمرة

لا شيء يعلو فوق إرادة الشعب، الشعب مصدر السلطات، الكلمة هي كلمة الصندوق، به ينتهي الخصام، ويُرفع الخلاف، هذه مقدمات يكاد يقر الجميع بها، لكنها كثيرا ما تسقط عند أول اختبار، فكلٌ له في جرابه بديهيات، وقطعيات، ومثاليات يعتبرها مبرأة من كل عيب، وما غيرها في نظره إلا مجرد أباطيل، وهو لا يقبل بحكم الشعب؛ إلا إذا وافق ما يراه من حتميات لا يقبل أن يحيد عنها. الأمر الذي يجعل الأقوال السابقة أقوالا معلقة على اشتراطات متضادة بقدر تضاد ما يحسبه الفرقاء من الثوابت، وما يصنفونه من القطعيات.

فمن يدفع بالعودة إلى الملكية يراها (فوق الدستورية)، وأن لا منجاة إلا بها، ولا استقرار إلا معها، ومن يقول بالفيدرالية يضعها فوق الدستورية، ويعدها من أسس وجود الدولة، ويرفض إعادة البناء إلا عليها، فبدونها لكانت الدولة دولا، ولكان الوطن أوطانا، ومن يؤمن بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان يرها (فوق دستورية) بكامل إعلاناتها ووثائقها وعهودها، ويرفض أي تحفظ عليها، ومن يتمسك بالشريعة الإسلامية يقطع بأنها دستور الدستور، ويذهب إلى أبعد من الثابت منها، ويوجب الالتزام بالوقوف عن اجتهادات فقهائها.

فمهما كانت دقة المسارات وصرامة الإجراءات، لا يحكمون بقبول استفتاء الشعب عليها إلا بعد فحص نتائجها، ودراسة ما يتوافق مع تصوراتهم منها، ووفقا لذلك يكون القبول أو الرفض، الدفاع أو الهجوم، المدح أو القدح، البحث عن المطاعن وإثارة الشبهات، أو إبراز الفضائل وستر العورات، فالاحتكام إلى الشعب لازم متى كان ذلك تمهيدا لما يراه، وإرادة الشعب مقدسة متى وافقت رؤياه، ونتائج الصندوق واجبة متى انتهى إلى مبتغاه، أما غير ذلك فيجب أن يجهض، وأن ينتهي إلى الفشل، ويخضع لإعادة النظر، وليس بصعب على منظري كل فريق من الفرقاء إيجاد ما يلزم لذلك من مبررات.

هذا استنتاجٌ من صراع بدأ بصراع بين من يريد تعيين هيئة تكتب مشروعا لمسطرة يكون؛ وفقا لها؛ بناء السلطات والحقوق والحريات ومن يريد انتخابها، فمع انتصار من أراد اللجوء إلى الشعب بشأن اختيارها، وتحقق اشتراط التساوي بين الأقاليم في عدد أعضائها، زاد من إِحكام القيود على قراراتها، ونص على نصاب الثلثين لإنجازها لأعمالها، وفرض موافقة ثلثي المشاركين من الشعب عند الحكم على نهاية مسارها. فجمع ببين الانتخاب والاستفتاء، وبين ثلثي الأعضاء وثلثي الشعب في سابقة تاريخية لم تسبقهم لها أي مرحلة من مراحل الانتقال.

وبعد أن أنجزت الهيئة مهمتها بما يزيد على الثلثين، وانتهت محاولات إبطال عملها بحكم القضاء بصحة ما انتهت إليه، وبأنه لا معقب على عملها إلا من الشعب الذي قام بانتخابها، خرج من يحاول بأثر رجعي أن يشكك في صواب كيفية اختيارها، ويقول بسوء خيارات الشعب وخياراتها، وبدأ في السعي لنكث غزل القواعد السابقة على انتخابها، وزاد التعقيد تعقيدا بأن جمع بين الثلثين على مستوى البلاد والأغلبية على كل إقليم من أقاليمها. ورغم ذلك لا زال يخشى من قبول الشعب لمشروعها، ويرى أن عليه أن يسعى لسد الطرقات أمامها، ففتح أبوابا ما كان لها أن تفتح، وطرح بدائل ما كان لها أن تطرح، وأقام مسارات ما كان لها أن تقام، وبدأ في حملة التشكيك في قدرة الشعب على تقدير الأمور، وقذفه بنقص الأهلية وقلة الوعي وانعدام التجربة، وبأنه مهددٌ بأن يكون ضحية خداع أعضائها ومناصريها، فتظافرت جهود من لا يتفقون على غير إفشال عملها، فنالوا من شرعيتها، ونشروا الريبة في صحة إجراءاتها، وتجاوزوا الموضوع؛ ليصلوا للطعن في قدرة ونزاهة أعضائها، وتناسوا أنه لا بطلان إلا بحكم، ولا إدانة إلا بحكم، وأن القضاء سبق وأن أصدر الحكم.

وكلما انسد بديل من البدائل، ولاحت النهاية بالاستفتاء، اشتد التوتر، وارتفعت الوتيرة وكثرت التساؤلات، واشتدت حدة الهجوم، وعادوا للتذكير بما سبق الدفع به، ومن ذلك القول بـ(المبادئ فوق دستورية)، رغم أنهم يدركون أنها لا يمكن أن تكون إلا نكرة، وأنهم يختلفون بشأنها أشد من اختلافهم على الدستورية، فكما أن هناك من يقول إنها تتمثل في الشرعة الدولية، هناك من يقول إنها تختصر في النصوص الإلهية، وكما يدفع الأولون بأن الإعلانات والمواثيق الدولية هي خلاصة تقدم البشرية، يرى من يقابلهم بأنها مجرد فكر إنساني قابل للخطأ والصواب، وأنه لا يمكن قبول تنزيلها منزلة الأحكام السماوية. ومن ثم؛ يظهر للعيان جليا واضحا تنازع الاتجاهات المتضادة مضمون ما يسمى (مبادئ فوق الدستورية)، وينتهي القول بفوق الدستورية إلى منع الوصول إلى الدستورية، ما قد يعني أن التمسك بمبادئ توصف بأنها (فوق دستورية) ما هو إلا إصرارٌ على البقاء في (اللادستورية). ولا نرى حلا لمنع الدخول في متاهة (ما فوق الدستورية)، إلا إدخال ما يوصف بأنه أعلى من الدستورية في نطاق الدستورية؛ بحيث تقيد الأحكام بعضها البعض، فلا عام على عمومه، ولا مطلق على إطلاقه، فيُدفع اجتهاد الفقهاء بقطعي الدستور، ويُستبعد من مواثيق الحقوق والحريات ما يصطدم بقطعي الشريعة، وهو الأمر الذي اهتدت إليه الهيئة التي فوضت من الشعب بإيجاد مشروع وثيقة يحكم على قبولها أو رفضها الشعب، والذي لا يريد من يتمسك بمبادئ يقطع بأنها فوق دستورية أن يبصره في تكامل نصوصها، رغم أنه يكفيه أن يقلب صفحة المقومات منها؛ ليرى ما يحويه باب الحقوق والحريات فيها.