Atwasat

المحاصصة الوظيفية عصر ما قبل الدولة

صالح السنوسي الأحد 31 يناير 2021, 11:50 صباحا
صالح السنوسي

تمر ليبيا بأخطر مرحلة مرت بها في تاريخها السياسي، إذ إنها أصبحت مهددة بزوالها ككيان جغرافي وسياسي واختفائها من خارطة العالم، فهي تعانى من تمزق في نسيجها الاجتماعي يزداد اتساعا كل يوم، ومن تشظي مؤسساتها المدنية والعسكرية واحتراب داخلي وارتهان مصيرها لمشيئة قوى دولية تتواجد على الأرض من خلال قواعد عسكرية ومجموعات من المرتزقة إلى جانب استشراء الفساد المالي والإداري والنهب للثروة الوطنية، ولكن إرادة الشعوب وقوة تصميمها لا تتجلي إلا في الأوقات العصيبة، وفي المنعطفات التاريخية التي تتعرض فيها الأوطان إلى محن تهدد مصيرها ووجودها، وعندها يظهر الفارق بين الشعوب التي لا تستسلم لليأس فتقوى إرادتها في مواجهة الأخطار التي تحيق بأوطانها حتى تخرجها من مأزقها التاريخي، وبين تلك الشعوب التي تنكسر إرادتها وتموت فيها روح التحدي فتستسلم أمام الأخطار التي تعبث بأوطانها وتغير مصائرها، ولهذا فلا ينبغي لقتامة الواقع وخطورة الظروف المحيقة بليبيا، أن تثبط من عزيمة الليبيين أو تنال من تصميمهم وإصرارهم على إخراج وطنهم من هذا المأزق .

لعل أولى الخطوات على هذا الطريق هي وقفة جادة من قبل كل القوى الوطنية الحية في موجهة ما يطرحه المتصدرون المشهد السياسي من حلول لا تبدو أنها في مصلحة الوطن، بل في خدمة استمرارية هؤلاء في إدارة دفة الأمور دون اعتبار لما يترتب على هذا الطرح من أخطار على الكيان الجغرافي والسياسي للدولة الليبية ووحدة شعبها، فالاتفاق الذى تم بين ممثلي مجلس النواب ومجلس الدولة في بوزنيقة، يجسد خطورة أبعاد هذا التوجه من قبل هؤلاء على وجود الدولة الليبية كمؤسسة قانونية وسياسية تدير إقليما جغرافيا وكتلة سكانية معترفا بها كشخص من أشخاص القانون الدولي.

إذا نظرنا إلى هذا الاتفاق فسيتضح أنه مسمار في نعش هذا المفهوم للدولة، لأن المحاصصة الوظيفية كما ثبتها هذا الاتفاق تحيل إلى جملة من المعاني كلها تتناقض مع مفهوم الدولة الواحدة كناظم اجتماعي وملتقى تفاعلات مختلف قوى المجتمع فالمحاصصة في هذه الوظائف تعنى:
أولا- اعتراف صريح –سيكون لاحقا مدسترا- بأن الوظيفة العامة هي غنيمة يتم توزيعها كأسهم بين المناطق والقبائل والجهات، لأن معيار شغل أي من هذه الوظائف هو انتماء من يشغلها إلى إحدى هذه المسميات ولا معنى للقول بأنه سيتم اختيار الكفء من بين المنتمين لهذه القبيلة أو تلك المنطقة، لأنه لولا انتمائه ما كان للكفاءة وحدها أن تضعه في هذه الوظيفة، وبالتالي إذا رأى أن هناك مصلحة يمكن تحقيقها للعصبة التي وضعته في هذا المرفق، فإنه سيقدمها على المصلحة العامة ومصلحة المناطق والعصبيات الأخرى، فإن لم يفعل ذلك ستنتفي الفائدة المفترضة والمرجوة من فكرة المحاصصة الوظيفية حسب المنطق العصبوي..
ثانيا - المحاصصة الوظيفية تكون بالضرورة على حساب المصلحة العامة وهو المفهوم الذى قامت على أساسه فكرة الدولة وهو الذى يبرر أفعالها وتصرفاتها منذ ظهور المدينة اليونانية مرورا بالشأن العام الروماني إلى أن أصبحت مقولة أخلاقية عليا عند هيجل تقع فوق المصالح الأنانية.
إذن تراجع مفهوم المصلحة العامة يؤذن بعودة الأنانيات المصلحية التي تقيل الدولة من وظيفتها وتهددها بالزوال وتعود بالجماعة إلى عصر ما قبل الدولة، وفي الحالة الليبية إذا تم تبني المحاصصة الوظيفية فإنها ستمسك بخناق الدولة ولا تتركها حتى تنهار كمفهوم وكوظيفة، وحتى لو تم تقسيم الكيان الليبي إلى عدة دويلات فلن يحظى أي منها بمؤسسة يمكن تسميتها بالدولة، لأن الانتماء العصبوي جهويا أو قبليا أو مناطقيا الذى كان سببا في انهيار الدولة الأم، سينتقل إلى كل كيان من هذه الكيانات القزمة وتنتقل معه بالضرورة المحاصصة الوظيفية فيزول جهاز ما يسمى بالدولة وينفرط عقد العصبيات في متوالية من المتناقضات تعود بهم إلى عصر ما قبل الدولة..

ثالثا: الوظائف التي تم تقاسمها وظيفيا تمثل مؤسسات خدمة عامة تقوم على التعيين وليس الانتخاب وليس لها طابع سياسي، وهذا يعني أولا أنها لا تمثل مصلحة مادية بشبهة شرعية بالنسبة للعصبة التي ينتمي إليها موظفيها فلا يمكن –على سبيل المثال- لموظفي المفوضية العامة للانتخابات أن يقدموا مصلحة لعصبتهم أو أيديولوجيتهم إلا إذا قاموا بعملية تزوير للانتخابات لمصلحة هؤلاء، وكذا الأمر بالنسبة لجهاز مكافحة الفساد إلا أذا تستروا على فساد المنطقة التي ينتمون إليها، كذلك الأمر بالنسبة لجهاز الرقابة الإدارية وينطبق هذا أيضا على قضاة المحكمة العليا إلا إذا أصدروا أحكاما لمصلحة الطعون التي تقدم بها أبناء عصبتهم بصرف النظر عن عدالتها في مواجهة المنتمين إلى المناطق الأخرى، وهذا يعني بالنتيجة أن المصلحة المادية لهذه العصبة أو تلك منتفية ما لم تكن غير شرعية، ويترتب على هذا أنه في حالة التسليم بأن الغرض من المحاصصة هو خدمة المصالح غير الشرعية لعصبية من العصبيات فهذا يعنى الاعتراف بعدم ضرورة المصلحة العامة وبالتالي تقويض أساس وجود الدولة كمرجعية أخلاقية عليا خارج المصالح الأنانية المدمرة للاجتماع العمراني، أما في حالة التزام هؤلاء الموظفين بالمصلحة العامة فقط دون أي اعتبار للمصلحة الأنانية غير الشرعية للعصبة التي يمثلونها فإن المحاصصة الوظيفية تبدو عبثية لا فائدة فيها لأحد وحتى في هذه الحالة فإنها تلعب دورا ضد وجود الدولة والنسيج الاجتماعي لأنها تجذر وتجسد العصبية القبلية والمناطقية والجهوية في مواجهة مفهوم المواطنة والانصهار الاجتماعي.

قد يبرر من تبني المحاصصة الوظيفية، بأنها حل لتجنب الفيدرالية التي قد تكون أخطر على وحدة الدولة، ولكن في الواقع ليس هناك ما هو أخطر على الوحدة الوطنية والدولة من المحاصصة الوظيفية، لأن الفيدرالية تكون نتيجة استفتاء يشارك فيه جميع المواطنين ولا تقررها مجموعة من الأشخاص في غرفة مغلقة مشكوك في الصفات التي يدعونها. إلى جانب أن الفيدرالية في حالة تبنيها حسب الشروط والمواصفات فهي توزيع للسلطات والاختصاصات داخل إقليم واحد تمثل الدولة فيه السلطة الاتحادية التي حكومتها لا تخضع للمحاصصة الوظيفية .

قد يبرر بعض هؤلاء المحاصصة الوظيفية كعلاج لموضوع المركزية، وهذا لا شك تبرير أسوأ من سابقه لأن معالجة المركزية لها أدواتها التي ليس من بينها التقاسم العصبوي للوظائف العامة، فالمركزية مشكلة اقتصادية بالدرجة الأولى وعلاجها توزيع مشاريع التنمية المستدامة وتوسيع الإدارة المحلية وإعادة توطين المؤسسات الاقتصادية والمالية والشركات البترولية في عدد من المدن الليبية الكبرى واعتماد آلية صارمة تتيح لكل الليبيين فرصة التسابق لشغل الوظائف العامة .

إن اعتماد وشرعنة معيار الانتماء العصبوي لتولي الوظائف العامة بدلا من الكفاءة، في بلد لا تزال فيه العصبة هي أقوى رابط في نسيجه الاجتماعي، سيفتح الطريق أمام صراعات عصبوية لا تنتهي حتى تطال أبناء الأسرة الواحدة.