Atwasat

عن الخل والجبن.

محمد عقيلة العمامي الإثنين 25 يناير 2021, 10:28 صباحا
محمد عقيلة العمامي

" إذا ورثت تقليدا من عائلتك، فعليك أن تحافظ عليه. أما إن لم يكن في عائلتك تقليدا ما، فعليك أن تؤسس واحدا جديدا" هكذا يقول الإيطاليون.

لعل مصدر رزقك، كمهنتك، على سبيل المثال، أو صناعتك أو تجارتك، هي الإرث الحقيقي، الذي تتكيء عليه طوال حياتك، وهو بالتأكيد إرث فعال، ويضع ذريتك على الطريق الصحيح؛ إنه أفضل بكثير من حسابك في البنك، أو تحت البلاطة! أنه الإرث الذي لا ينضب. أسرار المهنة هي إرث تتوارثه الأجيال، وسواء أكانت هذه المهنة صناعية أو زراعية، فهي من أعمال الخلق والابتكار. قد يكون للتجارة سر كأسرار مهن الابتكار، وقد تكون أكثر دخلا، خصوصا إن تأسست على أمانة وصدق، ولكنها ليست بمتعة الخلق والإبداع، تلك المتعة التي خلقنا بها الله وجعلنا خلفاءه في الأرض. إتقان الصناعة إرث توارثته أجيال وطورته، منها ما كان سببا في رخاء قرية بأكملها وشهرتها فتعدت بذلك حدودها. والناس يفخرون بما تتميز به قريتهم أو مدينتهم وبالتأكيد دولتهم.
اهتمت الواحات الليبية، ولا أحد ينكر ما قام به نظام القذافي من اهتمام بالنخيل، ففاض الإنتاج لدرجة استخدم علفا وسمادا، على الرغم من جودة أنواعه، وقيمته التجارية. واشتهرت واحة جالو بالطماطم وبلغ إنتاجه حد العجز عن تسويقه، ولم يفكر أحد بتصنيعه لأن مزارعي جالو عرفوا زراعته، وتوارثوها، ولكن لم يفكر أحد في تصنيعه، أو تجفيفه بحيث تكون مهنة تتوارثها الأجيال، علما بأن تجفيف الطماطم كان معروفا بسبب حالة البلاد الاقتصادية في الخمسينيات، والستينيات، ولكنه يجفف الآن، في إيطاليا تحديدا، لأن بعض الوجبات يعد الطماطم المجفف من أساسياتها .

اشتهرت قمينس بالنعناع! وهو المنتج الذي توارثته عائلات إيطالية، جففته؛ وعلبته وصدرته للعالم مع الحبق، لزوم (البيتسا) فوصل الصين!

في ليبيا كل ما قمنا به "ابتداع" نكتة عن النعناع، سمعتها من صادق النيهوم، فلقد حدثت مشكلة، من دولة سويسرا، بخصوص طائرة لا أذكر تفاصيلها تماما، فلقد احتجزت، أو شيء من هذا القبيل، وتفاقمت المشكلة، وكتب صادق النيهوم مقالا جميلا بشأنها، فيما عمّ ليبيا استنكار قام بتأجيجه رجال الاتحاد الاشتراكي، فكتب سكان قمينس "يافطة" فوق الطريق الساحلي، أمام مدخل المدينة تقول: " شباب قمينس يستنكرون ما قامت به سويسرا.." فما كان من أحد رفاق النيهوم، وهم في طريقهم إلى طرابلس، إلاّ أن أوقف العربة التي تقلهم وأضاف على اليافطة: "وتهدد بقطع زراعة النعناع"!

وكانت مدينة درنه من أول المدن التي زرعت شجر "النارنج" وقامت بصناعة "ماء الزهر" من تقطيره. فدرنة هي المدينة التي جاءت بشتلات هذه الشجرة من الأندلس بعد سقوطها، وكانت السباقة لهذه الصنعة، بل وعرفتُ أن أسرا معروفة في مدينة درنة، كانت مشهورة بهذه الصناعة، وها نحن في ليبيا نستورد "الزهر" من تركيا وسوريا.

منذ أيام زارني صديق، وتعشينا معا في مطعم إيطالي، ولما جاءنا النادل بصحني "السباجتي" طلب صديقي الجبن المبشور، ولما جاء به، قال له صديقي متذمرا: "هذه ليست جبنة بارميجيانو!" ولأنني لا أريد أن أفقد الود بيني وبين نادل المطعم الذي يحسن معاملتي، تدخلت وقلت لصديقي: "لا يا راجل.. البرمادجانو، أنواع!" رد سريعا وبغضب: "لا! .. ليس هناك في إيطاليا إلاّ نوع واحد!" وأمضى جلسة العشاء كلها يستعرض معلوماته عن هذا الجبن وألحقها بخل (البلسمك) وعلى الرغم من معرفتي لهاتين السلعتين، بل واستخدامي - أحيانا- لهما إلاّ أنني ظللت طوال الجلسة منصتا، كتلميذ غبى يخشى أن يخطيء في قول معلومة فيعاقبه أستاذه.

البارحة وقع في يدي مقال عن زراعة الأرز والتفنن فيه منذ أجيال على أيدى عائلة إيطالية، وكنت أتصور أن إيطاليا تستورد أرزها من الصين مثلا، والمقال كان يشير إلى الإرث الذي ذكرته في مطلع هذه المقالة، فخطر عليَّ صديق "الجبن البرماجانو"- لعلكم لاحظتم أنني كتبت اسم هذا الجبن بثلاثة أسماء ، وهناك غيرها سوف نذكرها لاحقا - ولأنني وددت أن أعرف موضوع هذا الجبن، الذي ذلني أمام صديقي، بحثت عن معلومات عنه، فإليكم تلخيصا لما عرفت، وقد تحتاجون لمثل هذه المعلومات، التي قد تكون مهمة في حياتنا من بعد أن تحررنا وأصبح اسم بلادنا متداولا في قنوات العالم كافة، وقد يسألكم أحد "حسادنا" عن هذا "الجبن" الإيطالي الفخم، فتعجزون عن الإجابة. ما لخصته يقول: " هذا الجبن كسب اسمه من الأديرة المسيحية، التي تقع على السهل الممتد ما بين مدينتين مشهورتين هما "بارما " و "ريجيو إمليا " هكذا اكتسب اسمه: " Parmigiano Reggiano "، وهو اسم الشركة الرائدة، وسبب شهرة هذا الجبن. ونجح تصنيع ذلك الجبن، بسبب المراعي الخصبة للأبقار، ففاض حليبها، وظهرت الحاجة إلى تخزينه لمدى الطويل، فاخترع رهبان تلك الأديرة في القرن الثاني عشر، وصفة هذا الجبن، ومراحل إنتاجه، وصولا إلى طعمه.

ولتصنيع قرص "بارميجيانو ريجيانو"، يتراوح وزنه ما بين 35 إلى 40 كيلوجرام، نحتاج إلى حوالى 550 لترا من حليب عالي الجودة، ، بالإضافة إلى روائح التوابل الحارة مع مكونات الجوز لتشكل "الباميزان"، الذى يعد عنصرا ضروريا للعديد من الأطباق الإيطالية - كالمعكرونة والبيتزا، وبضعة أطباق أخرى.

أما خل البلسميك (Balsamic vinegar) وهو نوعٌ من الخلّ يعد من بعد طهي العنب الطازج المعصور ببذوره وقشوره، ويتم تحضيره، عبر ثلاث خطوات: الأولى تحويل السكر الموجود في العنب إلى إيثانول (Ethanol) بفعل الخميرة، أمّا الثانية : فيتم بأكسدة الإيثانول إلى حمض الخليك (Acetic acid) عن طريق بكتيريا هذا الحمض، والخطوة الأخيرة يعتق لفترةً لا تقلّ عن 12 سنة، والمنتج النهائي كثيف له لون بنيّ غامق. لقد توارثت عائلات عديدة من مدينة مودنا الإيطالية تصنيعه، ليصبح إنتاجهم منه الأفضل في العالم كله.

فماذا نحتاجه ، الآن، من بعد أن أصبحنا أحرارا، وانتشرنا في العالم كله، هو معرفة هاتين السلعتين لنؤكد للآخرين أننا شعب متحضر، يأكل السباقتي بجبن (البيرماجانو) ويظل على الدوام شعبا "صعيب عناده"!