Atwasat

ما لا يقال.. خلل النخبة

عبدالواحد حركات الثلاثاء 19 يناير 2021, 11:46 صباحا
عبدالواحد حركات

تحتاج البيئة السياسية في ليبيا لفحص عميق ودراسة تشريحية دقيقة، لمعرفة حقيقة التفاعلات والانفعالات المتسلسلة في حلبتي السلطة والهيمنة..!

قبل كل شيء لنتذكر أن ليبيا منذ التحضير لاستقلالها اتبعت النهج الاجتماعي في تكوين وتوليد وتكاثر النخب السياسية، وإن خالطها بعض التكنوقراط لدواعٍ ملحة، وامتد واستمر النهج الاجتماعي في توليد النخب السياسية إلى يومنا هذا سراً وعلانية، وأرى أن هذا أس وأساس تكرار السقوط والدوران في أفق مغلق!.

إن فهم طبيعة ومناخ الفكر الاجتماعي والمنطق الذي تتم على أساسه صناعة الرموز السياسية وإبراز القيادات ضرورة ملحة وواجبة، فلا يمكن بأي شكل فهم السياسة والنخب السياسية وأثاث المطبخ السياسي الليبي وآليات صنع واتخاذ القرارات السياسية والتأثير عليها دون معرفة الخصائص الاجتماعية والبيئات الأولية للنخب، إذ تشكل البيئة الاجتماعية للسياسيين (ظاهريا) أرضية سياسة منخفضة لها تأثيراتها في السياسة العليا للدولة، وقد تكون هي السبب في عدم وجود مجال سياسي متجانس وتكاملي!.

لعنة الجغرافيتين البيئية والفكرية تلاحق الليبيين وترمي بهم في مزالق الردى، فالوحدة الإدارية لليبيا منذ عام 1952 ميلادي رغم وجودها، لم تنتج واقعاً وفكراً سياسياً موحداً ومقولباً لخدمة ليبيا كدولة، إذ ظلت القضايا الأساسية مشرنقة في قصر المنار ولم تغادره البتة، وظل قوس الأخوين فليني منتصبا في واقع السياسة الليبية رغم كل شيء، وحدثت انتقائية مريبة في النخب ووضعت معادلات كيمياء إدارية مفخخة بالمحاصصة العشائرية والتوارث البيروقراطي، وانهار سقف الاستقلال والحلم بدولة مؤسساتية على رؤوس الليبيين سريعاً، وعادت الأمور رويداً رويداً إلى ضرورات هندسة السياسة وفق خارطة ومزاج وذائقة الفكر العشائري!.

لقد تكون التوجه السياسي في ظروف استثنائية، ولم تكن هنالك فرصة لنشوء وتكون النخب في أوساط مدنية، بل حدث كل شيء في فترة مقاومة الفاشست تبعتها مضاعفات الحرب العالمية الثانية، وكان للحركة السنوسية اليد الطولى في خلق وإبراز القيادات الجهادية والسياسية، فقد أحدث السنوسيون تغييراً حقيقياً في العلاقات العشائرية ووضعوا أسسا تنظيمية لإدارة العشائر تحت قيادتهم، واستخدمت ذات الأسس في توليد مجال سياسي لخلق الاستقرار، ووضع لبنات الدولة وتنمية مؤسساتها، وإن كان هنالك عزم على تكوين إدارات تكنوقراطية إلا أن عدم توفر عناصر كافية لذلك أثر على البناء المؤسسي حينها!.

غاب السنوسيون وظل الفكر العشائري مرتكزاً ينتقى على أساسه وحسب هواه اللاعبين في حلبة السياسة، وعادت خيوط اللعبة السياسية لأيدي العشائريين وضاعت المدنية في الضباب، وأثر الركض السياسي في منطقة الشرق الأوسط وتبدل الولاءات على السياسة والإدارة الداخلية، وسقط القناع وانكشفت للعيان حقيقة زيف المؤسسات وزيف الإدارة وزيف القيادات، ولم يجد الليبيون من المؤسسات غير أسمائها، وتورطوا في خوض تجربة الاستقلال من جديد ولكن بتكنوقراط عشائريين خيارهم العشيرة بدل الوطن، والفرد بدل العشيرة!.

إن جوهر أزمة ليبيا يتمثل في وجود واقع معقد ومتنوع إلى حد ما، لم يتم تحديد معالمه بشكل أساسي ورصد ديناميكياته بدقة، ولم تفهم حقائق التغيرات الاجتماعية والسياسية فيه، بل إن العمليات والتفاعلات الاجتماعية والسياسية القديمة لازالت مؤثرة إلى جانب انتشار عمليات وتفاعلات جديدة، وقد أثرت سلبا على تجانس النخب السياسية فأدت بطريقة مربكة إلى إحداث تعبئة سياسية ظهرت كتمثيل سياسي للعشائر أركس مشروع الدولة، واحتفظ للمجتمع بحالة ما قبل الدولة التي لم يغادرها منذ زمن التحنو والتمحو!.

الحقيقة شديدة المرارة التي ينكرها الليبيون تتمثل في وجود نخب مزيفة، وعدم وجود موارد بشرية مؤهلة سياسياً وإدارياً في الإدارات السياسية العليا، بالإضافة لأنيميا حادة في الكفاءة لممثلي السلطة التنفيذية ومدراء الشركات، مع تفاقم أزمة استنساخ التكنوقراط عن أصل رديء يمتاز بجودة منخفضة لا تتناسب مع ما يفترض وجوده لأداء المهام، والمذهل أن عملية الاستنساخ والتبادل استشرت بين الأوساط الأكاديمية والأوساط السياسية دون مراعاة لحقيقة التناقض بينهما!.

أقول جازما.. إن حشو المجالين السياسي والإداري بالأكاديميين واستغلال الفراغ وتحويلهم إلى نخبة سياسية لن يجدي نفعاً وسيؤدي إلى تفاقم الأزمات!.