Atwasat

علاج (الخضروات البشرية)

محمد عقيلة العمامي الأحد 17 يناير 2021, 08:23 صباحا
محمد عقيلة العمامي

"إلهبل يكتفوه هلا!"، هكذا ينصح الليبيون بعضهم البعض ليحدوا من تطاول، وسلوكيات بعضهم غير السوية، أوالمتهورة لأي شخصية من شخصياتهم غير العاقلة، أو المتزنة. فلقد كان الحل لمن يرون أنه فقد عقله هو قيد أطرافه وتكبيله حتى يعجز عن الحركة. وعموما "يكتفوه" من جذر عربي، وَكِفَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ: فَسَدَ، تَكْتيفُ الرَّجُلِ: شَدُّ يَدَيْهِ إلى خَلْفِ كَتِفَيْهِ وَإِيثاقُهُ بِالكِتافِ. و "هَبِلَ الشَّابُّ" يعنى فقد عقله! إن مثل هذه الكلمات، الكثيرة والمتداولة، خصوصا في شرق ليبيا هي التي جعلت الدكتور طه حسين يجيب، ذات مرة عن سؤال، ذات لقاء تلفزيوني، بقوله: "إن أقرب اللهجات المتداولة إلى اللغة العربية هي لهجة أهل برقة".

والواقع ليست اللغة موضوعي، وإنما الجنون، ولا أقصد بالهبال ما يحدث، "الآن"، في ليبيا؛ وإنما موضوعي علمي لم أكن أعرفه من قبل ورأيت أن أتناوله بتبسيط، وإن كانت المقدمة المُخزّنة في ذهني أساسها ليبي تماما!
ففي أواخر ستينيات القرن الماضي، أو بداية السبعينيات، كنت في القاهرة رفقة صديقي الحاج سالم محمود النواع، والتقينا بالمرحوم الدكتور على الرويعي، فهو أبن منطقتنا، منطقة سوق الحشيش، وشقيق أستاذنا الفاضل المربي والكاتب وأحد رواد نقابة العمال، الأستاذ طالب الرويعي، وأيضا الأستاذ أحمد الرويعي الكاتب المتخصص في الشأن الرياضي. وكذلك بقية إخوته المتميزين.

كان الدكتور علي، حينها، قد أنهى الدراسة الإعدادية للطب، ومحتار في اختيار تخصصه. استعرض التخصصات الطبية كافة، من دون قناعة منه بانتقاء تخصص منها، غير أن الأستاذ سالم النواع: نبهه إلى أنه نسي تخصصا طبيا مهما، وهو فقدان العقل، وقال له: "والله يا علي ليبيا قادمة على طفرة، وبالتأكيد سوف ‘يطرشق‘ كثيرون وليس لدينا متخصص في هذا المجال سوى بضعة ممرضين عمالقة، ابتدأوا حياتهم بتكتيف الجمال، فسهل عليهم تكتيف (المهبله) عليك وعلى هذا التخصص!". ينبغي التنويه أن "يطرشق" مصطلح ليبي، من بنغازي لا علاقة له باللغة العربية، ويعني "يتجنن"!

ويبدو أن الدكتور علي الرويعي اقتنع برأي صديقنا سالم، ولعله كان أول المتخصصين في هذا المرض، الذي لم يكن يعالج في ذلك الوقت، سوى بالمهدئات، وقد يكون الدكتور على هو من أنهى مهمة "التَكْتيفُ" باستخدام سترة المجانين!، والحقيقة أن هذه السترة ومن بعدها المهدئات هو الوسيلة الفعالة التي ساعدت الكثيرين، من المرضى، في العودة إلى منازلهم، وإن كانوا لم يشفو تماما من داء الجنون.

حالة واحدة، من حالات الجنون، ظلت مستعصية تماما، ليس في ليبيا فقط، ولكن في العالم كله. لم ينفع معها لا سترة المجانين، ولا المهدئات، وهي "الشيزو فيرانيا" التي تعني الفصام العقلي؛( Schizophrenia) وهو مرض نفسي يتسم بفشل في تمييز الواقع. أعراضه الوهم، واضطراب الفكر والهلوسة السمعية، والانطواء والعجزة عن التعبير العاطفي والتردد، والقلق والاضطراب والاكتئاب. وبالطبع أسبابه كثيرة.

في نهاية الحقبة الأولى من هذا القرن قدر أنه بالعالم حوالي 23.6 مليون حالة. والذكور أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض من الإناث، أسبابه كثيرة أساسها مشاكل اجتماعية، كالبطالة والفقر وانعدام المأوى-وبالتأكيد السيولة وطوابير المصارف، والنهب الممنهج لمقدرات الناس، وحقوهم وأشياء أخرى لابد أنكم تعرفونها- في مطلع هذا القرن قُدر أنه 16,000 حالة وفاة، سجلت نتجت عن الفُصام.

الإحصائيات الحديثة لهذا المرض، لم تعد عالية، نتيجة لابتكار علاج، لا علاقة له بالطب الأكاديمي، سواء أكان نفسيا أو عضويا، وإنما بلاغيا مؤسسا على الشعر! هذه الوسيلة العلاجية ابتكرتها مدرسة لغة وآداب موهوبة أسمها: "دوروثي هوسكينز سميث" مقتنعة بأن المرء قد يكون مجنونا كلية، ولكن لابد من وجود مكان في عقله، غير مصاب؛ أما الوسيلة إلى الوصول إلى النقطة هي الكلمات، خصوصا المضيئة، وهذه الطريقة هي التي وظفتها لإعادة الباعث ليتفاعل المريض المصاب بانفصال الشخصية، مع الحياة.

لقد انتبهت هذه المعلمة الموهبة إلى أن انتباه الطلبة في الفصل وإنصاتهم، بعيدا عن التململ يتحقق بإلقاء قصيدة قوية الإيقاع، فمن خلال جلسات نظمتها مستشفيات أمريكية عديدة تمكنت من استدراج أولئك الصامتين، الذين يطلق عليهم اسم "الخضروات البشرية" يعني كائنات حية ولكنها لا تتكلم! وبنجاح تجربتها قامت معظم المستشفيات النفسية بتدريب ممرضات وممرضين، ممن يحبون الشعر، بإلقاء القصائد المشهورة خصوصا المثيرة، فأثمرت نتائج مكنت من عودة الكثرين إلى حياتهم الطبيعية، أو على الأقل إلى بيوتهم.

وتتحدث السيدة "سميث" عن تجربتها الأولى، فقالت: "أنها كانت مع سبعة أشخاص لم يتكلموا مطلقا مع أحد، وما إن جاءوا بهم إلى القاعة وجلسوا وابتدأت في إلقاء قصيدة، حتى انسحبوا واختبأوا أسفل المدرج، حيث كانوا يجلسون." ولكنها استمرت في إلقاء القصائد بمهارة، وبعد حوالي عشر دقائق رفع أحدهم رأسه، وجلس منصتا، وهكذا توالى الآخرون، بل أحدهم ردد بيتا من القصيدة. وافتتحت الجلسة الثانية بتقديم نفسها إليهم، وصافحتهم وسألت كلا منهم عن اسمه، وابتدأت في قراءة الشعر، وبمرور الوقت بدأت تسأل عما يريد أن يسمع وهكذا بدأ الأمر الذي انتهي بعودة كثيرين منهم إلى بيوتهم، ولما أثبتت التجربة نجاحها طبقت في معظم المستشفيات. لم يكن العلاج أكثر من إلقاء الأشعار ثم الحديث معهم. وأخذت المستشفيات تطبق هذه الطريقة وكانت النتائج جيدة.

فهل تعتقدون مثلي أن الشعر قد يفيد في علاج أمراض آخرين انتشرت بيننا؟. يمكن!