Atwasat

مآسي الاضطهاد الديني

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 03 يناير 2021, 09:47 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

إذا ما استثنينا التعذيب والقتل والاغتصاب، فإن أسوأ ما يمكن أن يفعله إنسان بآخر هو مصادرة حقه في أن يكون له معتقد معين وإنكار أن يكون له رأي مختلف مستقل. هذا العمل جريمة شنعاء، سواء كان ضحيتها أفراد أو جماعات، وسواء تعلق الأمر بالدين أو الطائفة أو المذهب (حرية المعتقد)، أو سياسيا أو فكريا (حرية الرأي).

إن القيام بهذه المصادرة وهذا الإنكار، وإكراه الشخص على إعلان تبنيه معتقدا أو رأيا آخر، يدفع الإنسان الواقع عليه هذا الفعل إلى التظاهر بقبول الأمر الواقع وإبطان معتقده ورأيه الحقيقيين. وبذلك يعيش هذا الشخص بشخصيتين منفصمتين. واحدة للعموم ترتدي قناع القبول والرضى، والثانية في البيت مع أسرته وأقاربه وأصدقائه المماثلين الخاصين يسفر فيها عن وجهه الحقيقي. أي تدفعه إلى النفاق (مثلما يمكن أن يعبر مضطهِدوه) أو التقية (مثلما يعبر هو وأنصاره).

هذه الممارسة انتهجتها المسيحية وانتهجها الإسلام. وسنسوق مثالين على هذا الأمر وآثاره السلبية على المجتمع الذي تمارس فيه والطرف الذي تمارس عليه، ومسرح هذين المثالين الأندلس والمغرب.

المثال الأول يتعلق باضطهاد اليهود في الأندلس والمغرب. فبعد فترة ازدها الحضارة في الأندلس أثناء الحكم الأموي (756- 1031 م) تلك الحضارة التي أسهم فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، انقلبت الأمور تماما مع قيام دولة الموحدين (1121- 1269) ذات الاتجاه الديني المتشدد.

عندما فتح عبد المؤمن بن علي الكومي الزناتي قرطبة سنة 1148 م، أخذ لا يحتل مدينة إلا عرض الإسلام على الجماعات المسيحية واليهودية فيها، فمن أسلم نجا ومن طلب أن يغادر المدينة سمح له، ومن أبى قتل. فأظهر كثيرون ممن لا يمكنهم الخروج الإسلام وأسرّوا الكفر. وحدث نفس الشيء في المغرب في نفس العهد.

وفي هذا السياق توجد فتوى للمفكر العربي الأندلسي اليهودي موسى بن ميمون (1130؟- 1204)، الذي كتب كل تآليفه تقريبا بالعربية، والذي شمله الاضطهاد هو وأسرته، يجيز فيها إعلان الإسلام مع الحفاظ على الإيمان بالدين اليهودي سرا. فقد كتب "رسالة عمن يُكرهون على تغيير عقيدتهم" يرد فيها على رجال الدين اليهود الذين يحضون عموم المؤمنين اليهود على التمسك بدينهم، حتى ولو أدى ذلك إلى قتلهم قائلا:
"... يجب أن تعرف أنه في كل حالات الاضطهاد السابقة... صدرت الأوامر بانتهاك أوامر الشريعة وارتكاب الخطايا كما يذكر في التلمود. حيث حرم عليهم دراسة الشريعة، وختان أطفالهم، كما أجبروا على مضاجعة نسائهم خلال فترة الحيض. وعلى العكس ففي هذه المرة فإننا لسنا مجبرين على القيام بأي فعل إلا النطق بالشهادة. وإذا أراد أحدنا أن ينفذ بشكل سري الـ 316 أمرا، فإنه يستطيع أن يفعل، ولا يكون مذنبا إلا إذا قرر عدم توقير السبت بدون أن يكون هناك إكراه.

لأنه في حالة الاضطهاد الحالية لا يجبر أحد على تنفيذ أي عمل إلا النطق بالشهادة. ومن ناحية أخرى، فإن المسلمين أنفسهم يعرفون أننا لا نؤمن بهذه الشهادة، وأن من ينطق بها فإنما يفعل ذلك لكي لا يقع تحت طائلة عقاب الملك ويرضى الملك بذلك"(1) (تاريخ الفكر... ص239- 240).

ويسجل لنا التاريخ أن ابن ميمون نفسه أعلن اعتناقه الإسلام وكان يرتل القرآن ويقيم الصلوات الإسلامية، إلى أن تمكن من مغادرة المغرب، التي لجأ إليها من الأندلس، والوصول إلى مصر حيث كشف هناك عن هويته اليهودية.

الحادثة الأخرى جرت في الأندلس أيضا، ولكن ضد المسلمين بعد سقوط غرناطة سنة 1492 في يد المسيحيين الأسبان.

يُعرف المسلمون الذين بقوا في أسبانيا بعد استردادها من قبل المسيحيين الأسبان بالاسم الأسباني "الموريسكيون" وقد أجبروا على التنصر فأطلق عليهم اسم "المتنصرون الجدد ذوو الأصل المسلم". وكما هو متوقع بادر المنتصرون الأسبان بعمليات التنصير فورا وإحراق الكتب العربية، وتوالت جملة من الإجراءات التي تستهدف طمس الثقافة العربية والإسلامية، من ضمنها حظر استخدام اللغة العربية، ولم تراعَ اتفاقيات الحقوق التي عقدها السادة الجدد مع العرب المسلمين.

وقد جرى أيضا في بعض الحالات تخيير المسلمين بين قبول التعميد والتنصر أو مغادرة البلاد. وكما هو معتاد قبل كثيرون التنصر مع انتوائهم الحفاظ على دينهم. ولعله من هنا جاء المثل المنتشر في الدول المغاربية القائل "الِّي في القلب، في القلب يا كنيسية". انتهت آخر عملية من عمليات طرد الموريسكيين بطرد موريسكيي بايي دي ريكوتي الذين أُجل طردهم باعتبارهم "مسيحيين مخلصين"!. وبذلك قضي على الوجود العربي المسلم في أسبانيا.

المراجع والهوامش:
(1) ننبه هنا إلى أن النص مترجم إلى العربية عن الأسبانية، وليس منقولا عن الأصل العربي. ولعله من الطريف أن نشير هنا إلى أن ابن ميمون يأتي في رسالة نُصح وجهها إلى ابنه يحذره فيها من مخالطة جماعات وأقوام معينين، يشير إلى الليبيين، دون أن يسميهم، إذ يقول "وأيضا كن حذرا من الناس الذين يعيشون بين تونس والإسكندرية الموجودة في مصر... لأنهم، من وجهة نظري، أكثر الناس تكبرا، وإن كانوا أشدهم إيمانا"!.

* كروث إيرنانديث، تاريخ الفكر في العالم الإسلامي، ترجمة عبد العال صالح مج2، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2016.
* إسرائيل ولنفسون (أبو ذؤيب)، موسى بن ميمون: حياته ومصنفاته، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936.
* تمار رودافسكي، موسى بن ميمون، ترجمة: جمال الرفاعي، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2013.
* مرثيديس غارثيا أريال، الموريسكيون الأندلسيون، ترجمة: جمال عبد الرحمن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.