Atwasat

الفصل بين الدين والدنيا (1-2)

محمد خليفة الأحد 27 ديسمبر 2020, 12:07 مساء
محمد خليفة

انطلق على موقع "الوسط الليبية" حوار كنت أتوقع أن ينطلق، أو تمنيت لو أنه انطلق، قبل نهاية 2011

(1) تأخر الحوار لبعض الوقت إذن؛ لكنه انطلق على كل حال، وبإمكان كل ذي رغبة، أو كل ذي قدرة، المشاركة فيه. ومشاركتي في الحوار ستكون من باب العنوان الذي اخترته لهذه المقالة. واختياري لهذا العنوان ليس ابتعادًا عن عناوين تثير من الإشكاليات أكثر مما تسوي مثل "العلمانية"، و"الفصل بين الدين والسياسة"، أو "الفصل بين الدين والدولة"، وإنما لأن "الفصل بين الدين والدنيا" معروف عند المسلمين وعند غير المسلمين (الأوربيين)، غير أن المسلمين يعالجون هذا الفصل بفعالية لا توجد عند غيرهم للسبب التالي: الفصل بين الدين والدنيا، عند المسلمين، يتم في فضاء ليس فيه إله إلا الله؛ ويتم عند غير المسلمين في فضاء متعدد الآلهة.

(2) ومن هنا كان الاختلاف، والبون الشاسع، بين المسلمين وغير المسلمين على مستويي النظر والممارسة، الدينية والدنيوية. أولاً. الفصل بين الدين والدنيا عند المسلمين.

الإسلام منهج تفكير قبل أن يكون منهج تشريع؛ ومن هنا يكون البدء بالتشريع قبل التفكير مجرد مضيعة للوقت والجهد، لأن محاولة التشريع إسلاميًا (دون التفكير إسلاميًا) ستضيع في بلبلة أحد تجلياتها التعامل مع الشريعة بمنطق القانون الوضعي. ويزيد الأمور تعقيدًا محاولة الاسترشاد أو الاستشهاد بتجارب تمت في عالم تعدد الآلهة، ولا تليق أبدًا بقوم لا يجعلون مع الله إلها آخر. لذا وجب إعادة الأمور إلى نصابها بتحديد الفصل بين الدين والدنيا في منهج التفكير الإسلامي (المفقود). والمقصود بالمنهج الإسلامي في التفكير منهج الرسول باعتباره الشارع (أو المشرع بلغة هذه الأيام) لشؤون الدين والدنيا. وانطلاقًا من منهج الشارع في التفكير سألقي بعض الضوء على نظام الشريعة العام الذي يضبط العبادات (وهي الدين) والمعاملات (وهي الدنيا).

1. منهج الشارع في التفكير. مشهور عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، وهذا الحديث يمكن أن نتصور له مقدمة تقول "أنا أعلم بشؤون دينكم"، وعندها سيكون الحديث في صورة: أنا أعلم بشؤون دينكم وأنتم أعلم بشؤون دنياكم. وتصوري هذا لا غاية له إلا تثبيت التصور الإسلامي للفصل بين الدين والدنيا، ومن هو الأعلم بهذه أو ذاك. فأنتم أعلم بشؤون دنياكم يمكن أن تعني، في مفهوم المخالفة، أنا أعلم بشؤون دينكم. وبذا يكون من الضروري التمييز بين تصرفات النبي ﷺ الدينية والدنيوية، حتى يتبين الرشد من الغي في باب الدين والدنيا.

أ) النبي المرسل. وفي هذا الميدان يتصرف الرسول ﷺ باعتباره المبلغ عن ربه، المبين لرسالته وهي القرآن، الذي تليه -على مستوى التشريع- السنة التي تفّصل المجمل وتخصص العام. ومن مشمولات التبليغ الإفتاء؛ ويقصد به الإجابة عن كل سؤال عن شؤون الدين من عبادات أو معاملات. وفي مثل هذه الحالات كلها يكون إفتاء الرسول ﷺ تشريعًا للمسلمين.

ب) النبي القاضي. وهو الذي يفصل في الخصومات بين المسلمين وبينهم وبين غيرهم من سكان المدينة (أهل الكتاب والمشركين).

وهنا يقوم النبي بما يقوم به القاضي من سماع الشهادة وحلف اليمين، وعرض الصلح، وإمضاء ما اتفق عليه الخصوم، وإبطال ما كان مخالفًا للشريعة (النظام العام) من الاتفاقيات والممارسات.

ومن القواعد الإجرائية التي قررها الرسول ﷺ في هذا الباب "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"!

ج) النبي الإمام.

ويسمى الآن الحاكم (أو الحكومة)، وبهذا الوصف تكون تصرفاته سياسية، وتشمل كل ما يتعلق بأمور الحرب والسلم وجباية الأموال وإنفاقها.

وتصرفاته عليه الصلاة والسلام في هذا الباب اجتهادية، وفي حدود مالم ينزل فيه وحي؛ ولذا كان الصحابة يسألون أكان تصرف النبي ﷺ في واقعة بعينها بناء على وحي، أم كان مجرد رأي رآه فيما يتعلق بالحرب والمكيدة؟(3) الوحي لا نقاش فيه، أما الرأي والحرب ففيهما نقاش ومشورة، مثلما حصل عند نزول المسلمين آبار بدر استعدادًا للمعركة وتغيير الموقع تبعًا لإشارة أحد الصحابة بذلك على النبي عليه الصلاة والسلام. ولم يقاتل النبي ﷺ في بدر إلا بعد موافقة الأنصار، لأن البيعة، وهي العقد الذي تأسست عليه المدينة، نص على أن يكون الدفاع عن الدعوة وصاحبها في المدينة وليس خارجها، فاقتضى الأمر موافقة الأنصار، وليس المهاجرين، على القتال خارج المدينة، لأن البيعة كانت مع الأنصار وليس المهاجرين. وقد حصل مثل ذلك بخصوص تفاوض النبي مع غطفان على أن ينسحبوا من الأحزاب التي تحاصر المدينة في مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، وهو ما رفضه الأنصار رضى الله عنهم، وبذلك انتهت المفاوضات إلى لا شيء، سوى ما تعلمناه من أنها كانت اجتهادا بشريا سقط بشورى أهل الحل والعقد في المدينة (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما).

2. نظام الشريعة العام. الحديث عن نظام الشريعة العام يتضمن تقسيمات الشريعة من جانب (أ)، وثوابت الشريعة من الجانب الآخر (ب).

أ) تقسيمات الشريعة. تُقسم الشريعة إلى عبادات ومعاملات. والسر في هذا التقسيم أن "الأصل في العبادات التحريم" و"الأصل في المعاملات الإباحة". القاعدتان من كليات الشريعة؛ بمعنى أن كلا منهما حاكمة في مجالها (عبادات أو معاملات)، ولذا يقف المسلم في العبادات عند ما شُرع له، لأن الأصل فيها التحريم، بينما لا يتوقف في المعاملات إلا عند ما حُرّم عليه لأن الأصل فيها الإباحة. ب) ثوابت الشريعة. هذه الثوابت ضمها حديث واحد يقول فيه الرسول ﷺ بلغة آمرة: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها". هذا الحديث يجعل الثوابت ثلاثة رابعها منطقة الاجتهاد، أو المسكوت عنه في النص، فثوابت الشريعة هي:

1) فرائض لا تُضيع، و2) حدود لا يتعدى عليها، و3) حرمات لا تُنتهك. والمنطقة الرابعة هي منطقة المسكوت عنه؛ أو بكلمات أخرى هي منطقة المعاملات، والسياسة منها، وهي منطقة الاجتهاد. وبذا تكون السياسة من المعاملات التي الأصل فيها الإباحة، لكن الإباحة ليست مطلقة؛ فالسياسة التي تضّيع فريضة أو تنتهك حرمة أو تتعدى حدًا تسمى فسوقًا وعصيانًا وليس اجتهادًا، لأن الاجتهاد مقيد بثوابت الشريعة ولا يكون إلا في حدودها.

ونص الحديث من جوامع التشريع، ولا بد من التوقف فيه عند عبارة أن الله - وليس أي سلطة أخرى- هو الذي فرض الفرائض وحد الحدود وحرم الحرمات. ومن جوامع التشريع كذلك أن محمد ﷺ عبد الله ورسوله في ذات الوقت، فهو المبلغ للشريعة وأول الخاضعين لها، فالله لا إله غيره، وشريعته تسري على كل عباده بمن في ذلك الرسل. وما كان لهذا المنجز أن يكون لو أن الجزيرة العربية بقيت فضاءً لتعدد الآلهة، لأن تعدد الآلهة هو أساس الجاهلية الأولى، وهو أساس الجاهلية الثانية (الحداثة)، غير أن أصنام الجاهلية الأولى أحجار وأصنام الجاهلية الثانية أفكار. وهذا هو ما سيكون محل التفصيل في الجزء الثاني من هذه الورقة الذي ننتقل فيه من الفصل بين الدين والدنيا في عالم الإله الواحد (الإسلام) إلى الفصل بينهما في عالم تعدد الآلهة (الحداثة)!

1. أطلق الحوار الدكتور الهادي بوحمرة. وشارك فيه حتى الآن، وعلى هذا الموقع، الأستاذان عمر الككلي وسالم العوكلي

2. لا زلنا نتجاهل، أو ربما نجهل، أن أم الحضارة الغربية (أوربا) فضاء شاسع لتعدد الآلهة، وقد تمت عولمة القيم الغربية فأصبح النظام العالمي نظام متعدد الآلهة!.

3. اعتمدت في التقسيم السالف بيانه على كتاب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور "مقاصد الشريعة الإسلامية"، الذي اعتمد فيه تقسيمات القرافي لأعمال النبي وتصرفاته كما جاءت في كتابه "الفروق..". لغة الشيخ الطاهر بن عاشور في غاية الصعوبة، ولذا لم استشهد منها بشكل مباشر، واستعضت عن ذلك بصياغة ميسرة من عندي دون الخروج عن النص معنىً وروحًا.