Atwasat

الحقيقة الغائبة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 27 ديسمبر 2020, 11:59 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

ما من أحد ينكر أنه يطلب الحقيقة ويقف إلى جانبها، وما من أحد، أيضا، يقول أنه يخفي الحقيقة ولا يجاهر بها، إلا في ظروف استثنائية. وحتى الأنظمة القمعية الشمولية، التي تمارس التزييف والكذب على شعوبها، ولا تعلن من الحقائق سوى ما يتفق مع مصالحها، ماتنفك تعلن حبها للحقيقة. هذه الأنظمة القمعية تحاول عزل شعوبها عن العالم من خلال منع الصحف والمجلات الأجنبية، عدا تلك المأجورة، وكذلك الكتب الأجنبية التي يمكن أن تكشف بعض الحقائق التي لا توافق هواها، أو توجه التفكير وجهة تعتبرها هذه الأنظمة وجهة ضلالة ومغضوبا عليها، وتعمل على تكميم الأفواه في الداخل ومنع حرية الرأي والتعبير كي لا تتشقق الستر والحجب المضادة لتسرب أضواء الوعي والفكر. التجربة الليبية، فترة حكم القذافي، أسطع مثال على ذلك.

وقد ابتدأت حقبة "الإظلام" فعليا بما سمي الثورة الثقافية التي أعلنت في خطاب رسمي لمعمر القذافي في أبريل 1973 عرف بـ "خطاب زوارة التاريخي".

حيث جرت مصادرة الكتب "المغضوب عليها" من المكتبات ومنع دخول الصحف والمجلات، إلا باستثناءات قليلة، وأصبحت الكتب تدخل مفلية ومنخولة. قبل ذلك بحوالي سنة أوقفت الصحف الخاصة. عُززت هذه الممارسة بما يعرف بـ "قانون أمن الثورة" الصادر سنة 1975، عقب انكشاف الإعداد لمحاولة انقلابية أركانها بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، على رأسهم الرائد عمر المحيشي.

إحدى مواد هذا القانون تعتبر وقوف أكثر من ثلاثة أشخاص معا تجمعا يعاقب عليه القانون. (كون هذا لم يطبق، لأنه مستحيل التطبيق فعليا، مسألة أخرى). لقد حاول معمر القذافي ضرب طوق من العزلة على الشعب الليبي وتجهيله إلى درجة أنه ألغى تدريس اللغات الأجنبية في المدارس، وأوقف لفترة طويلة إيفاد مستحقي الدراسات العليا إلى الخارج... ومع ذلك، هناك مقولة مشهورة لمعمر القذافي واردة في الكتاب الأخضر تقول: "إن الجهل سينتهي إذا قدم كل شيء على حقيقته"، وهي عبارة حافلة بالحكمة، دونما أدنى ريب.

إلا أنني أعتقد أن ثمة تكملة لها مضمرة، لا يُجهر بها. فكما أن منتقدي ديكارت يقولون أن ما اعتبره بديهة واضحة بذاتها في ما يعرف بـ "الكوغيتو" القائل: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" هو في الواقع قياس منطقي مبرهن حذفت مقدمته الكبرى وأبقي فيه على المقدمة الصغرى والنتيجة، وليس بديهة واضحة بذاتها. وأصل القياس: أنا أفكر،(مقدمة صغرى) كل مفكر موجود، (مقدمة كبرى) إذن، أنا موجود. (نتيجة) مقولة معمر القذافي، هي الأخرى، لها علاقة بالقياس المنطقي المبتور، حيث أبقي على المقدمة الصغرى وحذفت المقدمة الكبرى والنتيجة، ويمكن بناؤه كالتالي: الجهل ينتهي إذا قدم كل شيء على حقيقته، (مقدمة أولى). نحن لا نريد أن ينتهي الجهل، (مقدمة ثانية) إذن، لن نقدم كل شيء على حقيقته. (نتيجة).