Atwasat

نصائح «موكلي»

محمد عقيلة العمامي الإثنين 14 ديسمبر 2020, 10:39 صباحا
محمد عقيلة العمامي

الشاب " أرثر جوردون" كان مرشحا للتدريس في جامعة أمريكية، ولكنه كان يتمنى أن يصبح كاتبا، وكان معجبا بالشاعر والروائي الإنجليزي: "جوزيف روديارد كيبلنج Rudyard Kipling 1865 - 1936 " الذي ولد في الهند البريطانية، وله عدد من الأعمال القصصية والشعرية، ومبدع شخصية (موكلي) في (The Jungle Book- كتاب الأدغال) التي أصدرها سنة 1894، والتي حولتها فيما بعد "ولت ديزني" إلى شريط سينمائي، ونال عنها جائزة نوبل سنة 1907 وكان حينها أصغر من نالها سنا وأول بريطاني يتحصل عليها. موهبته السردية جعلته أحد أعظم الكُتاب في الأدب الإنجليزي وقال عنه الكاتب الأمريكي "هنري جيمس": "لقد هالني (كبلينج) بعبقريته الفياضة التي لم أشهد لها في الحياة مثيلاً". وأسماه الكاتب "جورج أوريل": "نبي الإمبراطورية البريطانية"، ثم اعترف لاحقاً باحترامه البالغ لكبلينغ ولأعماله. و(كيبلنج) هو القائل: "أوقية واحدة من عطاء الأم، خيرٌ من قِنطار موعظة من رجال الدين".

"أرثر جوردون"، كان يتطلع إلى أن يصبح كاتبا، وهو معجب بـ (كبلينغ) وأساس قصته أن أحد معارفه توسط له أن يقابل (كبلينج) في منزله. كان ذلك سنة 1959. والجميل أن هذا الشاب، جعل ما كتبه عن لقاء ( كيبلنج) قطعة أدبية رائعة في فن المقابلات الأدبية. لم تكن تقليدية بطريقة: "الأسئلة والإجابة " ولكنها جاءت كمقالة متكاملة أركان السرد، سوف أعيد صياغتها، بسبب المساحة المتاحة لي في هذه الزاوية:

يستهل الشاب مقالته بفقرة تقول: "أعطاني - يقصد كيبلنج - قطعة من نفسه لألصقها بنفسي، ومازلت أحس بحرارتها بعد كل هذه السنوات الطوال". ومن بعد وصف الجو والسماء في بريطانيا خلال شهر يونيو 1935، يصف بيت الأديب الذي اختاره ليعيش في عزلة، عن العالم. واستطرد: "وجدته في انتظاري أمام بوابته الخارجية، رجل قصير ضئيل الجسم قبعته الرخوة تكاد تصل كتفي، واضطربت هل أمد له يدي بالسلام أم أدير ظهري وأهرب؟ وزنه بالكاد يصل 50 كيلوجرام، بشرته السمراء لا توحي بأنه إنجليزي، شاربه كث أشعث كحشائش المستنقعات. تبرق عيناه من وراء نظاراته كبريق عيون كلاب الصيد المتوثبة".

واستقبله بلهجة الصديق، وسريعا ما أذاب الخجل والاستحياء، وذلك من خلال فهمه العميق الذي نفذ إليه أكثر ما نفذت إليه الكلمات. وقال: "كنا مختلفين أنا أمريكي وهو إنجليزي، كان هو في نهاية طريق مزدهر لامع، وكنت في بداية طريق معتم قاتم. لم يكن يعرف عني أي شيء، وكنت أعرف عنه كل شيء. كان مجرد كهل هزيل هش الجسم..." ثم وضف كاتب المقال باقتدار أعماله في وصفه من خلال إصداراته، فقال:"... كان الضحكة البريئة في عيون الأطفال، وهي إشارة إلى "كتاب الأدغال" والضحكة الجافة في أفواه الجنود في ثكناتهم، وهي التي وردت في روايته "القواد الشجعان" وحديث الناس في الأسواق، مما ورد في روايته "خلف سور المدينة". وأضاف: "كان في نظري معجزة، ولعله أحس بذلك كله فطرب له كثيرا".

كانت كل أماني كاتب المقال، أن يصبح كاتبا، وكان مفلسا، وفي حاجة لرجل خبرة عظيم الحكمة والتجربة، منتبها إلى أنه من العبث إلقاء هذه المسئولية على كاهل إنسان غريب. ولم يمض وقت طويل حتى نسي ما يكدره، وأخذ بالرجل العبقري مثلما وصفه، الذي كان يقذف بكلماته دافئة، والحادة كالسيف، وكان يتحدث مثل "موجلي" بطل روايته "كتاب الغابة".

وحدثه عن الطموح، وكيف يسيطر على المرء، وقال له: "كلما كَثَرت لدى الإنسان هذه التطلعات، عاش حياته أكثر اكتمالا." واستطرد: "لقد أردت أن أبني أو أستأجر قاربا شراعيا كبيرا وأطوف به حول العالم، ولكنني لم أفعل، وقد فات الأوان" ثم أشعلسيجاره ونظر إليه وأكمل حديثه، ناصحا، من خلال دخانه،: "افعل ما ترغب في عمله حقا، إذا كان في استطاعتك، ولا تنتظر أن تواتيك الظروف الصحيحة تماما لأنك ستجد أنها لن تأتي أبدا".

وفي حجرة مكتبه سأله عن ركن قصي يطل على حديقته، فأجابه أنه الركن الذي ينتظر فيه الوحي. ولما سأله: "وهل تسمعه دائما؟ " أجابه في بطء: "ليس دائما، ولكنني أنتظره ولا أستعجله".

وبعد أن تناولا وجبة الغداء، شعر كاتب المقال أن عليه أن يرحل، ولكن (كيبلنج) لم يسمح له قائلا: "لا يزال لدى الكثير من الحديث، لقد أكلت ملحي، فعليك أن تكون جمهوري.". وتحدث كثيرا عن أشياء عديدة. ومما قاله: "عندما تكون لديك موهبة، ستكتشف من يريد استغلالك، وبدلا من أن تقلق عليك أن تشكر ربك على منحك من الصفات ما يجذب نحوك هذه الطفيليات، ولا تحاول طردها عنك". وقال عن الصداقة: "صداقة الشباب هي خير الصداقات وأطولها بقاء، فالشاب لا يخشى محو شخصيته، لأنه يمنح الحرارة والحيوية والعطف، دون أن يفكر فيما يمنح، ولكن كلما تقدمت به السن، يبدأ في وزن ما يعطيه". وجادلته في ذلك، وأكدت له أنه أعطاني الكثير، فقال متبسما: "إنها مبادلة عادلة، أنت أوليتني انتباهك، وأعطيتني أذنا مصغية، وهذا نوع من العطاء".

ويخيل إلى أنه انتبه إلى أنني أبتهج، عندما أجلب السعادة لكل إنسان، ولذلك قال لي: "كان الفرد يناضل حتى لا تطغى القبيلة عليه، وأنه من الصعب أن يكون الإنسان سيد نفسه، وإن حاول ذلك فكثيرا ما يقف وحيدا، ويتملكه الخوف والهلع في بعض الأحيان، ولكن ميزة امتلاك الإنسان لنفسه يهون في سبيلها أي ثمن مهما كان غاليا".

ولم يعد لي ما أود معرفته. بل حتى النصيحة التي جئت من أجلها لم اسأله عنها، ومر الوقت سريعا، ولما حان وقت مغادرتي، صحبني حتى الباب، وصافحني وقال لي: "شكرا لك، فلقد أحسنت إلي".

أثناء عودتي واختلائي بنفسي، أعدت ما تناولناه، وانتبهت إلى أن ما قاله لي هو بالتحديد النصيحة التي كنت أحتاجها وبدا لي الأمر كما لو أنه يعرف مسبقا ما جئت من أجله، فخلاصة حديثه تركزت في ثلاث نقاط:
- "افعل ما تريد عمله حقا، ولا تؤجله طالما أنك قادر".
- "إذا لم يقل لك الوحي شيئا ، فإنه يعني أن يقول: لا" .
- "وأن ميزة امتلاك الإنسان لنفسه يهون في سبيلها كل شيء".

تبسمت وحرفتُ بصوت مسموع مقولته الشهيرة: "أوقية واحدة من عطاء إنسان عبقري صادق، خيرٌ من قِنطار من المواعظ".