Atwasat

وين السمي يا ريّاس؟

جمعة بوكليب الخميس 10 ديسمبر 2020, 01:24 صباحا
جمعة بوكليب

الأصل في العنوان أعلاه، مثل شعبي قديم ومعروف، وهو «وين السمي يا رايس»، وليس يا ريّاس. وارتأيت تغيير كلمة «الرايس» بالجمع ريّاس. ولمن ليس ليبيًّا، فإن الليبين في لهجتهم المحلية يسمون السماء «السمي». المثل، في الأصل، ورد على لسان بحار، في مركب صيد، في عرض البحر، في نهار غيّمت سماءه غيومٌ ثقيلة، وجعلت قائله يشعر بالحيرة وربما بالخوف من انعدام الرؤية، وما قد ينشأ عن ذلك من أخطار محتملة. فما كان منه إلا أن استنجد بـ«رايس» المركب، لأنه أكثر خبرة ودراية بالبحر وأحواله، وبغرض فهم ما يحدث، ولماذا؟ وبالتالي، إمكانية أن يهدئ من روعه، ويتمكن من استعادة رباطة جأشه، وإعادة السيطرة على نبضات قلبه المتسارعة من شدة الخوف. لكن المثل، بمرور الوقت، خرج عن دائرة صيادي السمك والبحر، وشاع استخدامه شعبيًّا في مختلف الأوساط، للتعبير عن موقف محير، أو حدث خرج عن نطاق المنطق، وتجاوز المعقول، وأضحى عسير الفهم.

علاقتي بمراكب صيد السمك بدأت في سن مبكرة. كان البحر جارنا وصديق طفولتنا وصبانا، وبراحنا الذي كنا نهرب إليه من ضيق نفوسنا، ومن بؤس أحوالنا. ومراكب صيد السمك، حين عرفتها، في المرسى بطرابلس، كان الصيادون يسمونها باللهجة المحلية «شْقف» ومفردها «شقفة». ولا أعرف السر وراء التسمية، رغم غرابتها، ولا الخلفيات التي ظهرت فيها. لكني كنت أعرف أن لكل «شقفة» مالكًا، ورايسًا، وبحارة. وأن للمالك حصة الثلث من محصول كل رحلة صيد، وللرايس ثلثًا، وللبحارة مهما كان عددهم فوقها الثلث الباقي. لكن هذه السطور ليست مكرسة للحديث عن «الشقف» وأصحابها وريّاسها والعاملين عليها، بقدر ما هي مكرسة للتعليق على آخر ما صدر من تصريحات عن السيدة ستيفاني وليامز، نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وتحديدًا، فيما يتعلق بأعداد المرتزقة الموجودين على الأراضي الليبية، والقواعد العسكرية الأجنبية.

وأن يوجد مقاتلون مرتزقة في ليبيا، فأمر ليس خافيًا على أحد، سواء لليبيين أم لغيرهم. ولم يعد صالحًا حتى لأن يكون موضوعًا لدردشة عادية بين أصدقاء، أو لحديث عابر بين رواد مقهى، أو سببًا يدعو لنقاش وزعل وخصام. وأن توجد قواعد عسكرية أجنبية في مناطق مختلفة من ليبيا، غربًا وشرقًا وجنوبًا، فأمر لا يخرج عن نطاق التوقع، لكل من يتابع، ولو من بعيد، ما يحدث في البلاد منذ العام 2011. ما فاق التوقعات حقا، وقصم ظهر بعيرنا نصفين، هو الأرقام الرسمية التي وردت، أخيرًا، في نص الكلمة الافتتاحية التي ألقتها السيدة ستيفاني وليامز، يوم الأربعاء الماضي، في الاجتماع المرئي للممثلين الليبيين، ولم ينكرها أو يكذبها أو ينفها أي طرف ليبي. فقط، وزارة الخارجية في حكومة الوفاق، أصدرت بيانًا طالبت فيه السيدة وليامز بذكر أسماء من وصفتهم، في ذات التصريح، بالفاسدين!

استنادًا إلى السيدة المحترمة وليامز، يوجد في ليبيا أكثر من 20 ألف مقاتل أجنبي، يقاتلون مع الأطراف المحلية المتصارعة على الثروة والسلطة، على مختلف المحاور والجبهات، وتحت مختلف الرايات والشعارات، الأمر الذي يوحي للسامع بأن السماء في ليبيا، لم تعد تمطر أمطارًا، بل مقاتلون مرتزقة، تهاطلوا من غيوم قادمة من مختلف أصقاع الأرض، ويتكلمون بمختلف الألسن، ويحملون مختلف الجنسيات، وربما، حسب المتداول والشائع، يتقاضى أغلبهم، في نهاية كل شهر، رواتبهم بالعملة الصعبة، من خزانة مصرف ليبيا المركزي!!

وأن نعلم، بعد عشر سنوات من الانتفاضة، بوجود قواعد عسكرية أجنبية في ليبيا، فهو أيضًا أمر لا يخرج عن دائرة التوقعات، وسياق ما يحدث في الواقع الليبي من صراعات على الثروة بين الفصائل المحلية، وعن النفوذ وحماية المصالح بين الدول الداعمة لتلك الفصائل. ما خرج عن السياق، ودوائر التوقعات، هو أن نسمع السيدة وليامز تؤكد وجود عدد عشر قواعد عسكرية أجنبية، موزعة في مختلف الأراضي الليبية!!!

لن ألجأ إلى استخدام المثل الشعبي القائل «تحب تفهم تدوخ»، لأننا جميعًا كمواطنين ليبيين، حسب رأيي، تجاوزنا مرحلة الدوخان، منذ أيام دولة العقيد القذافي الجماهيرية. لكنّي، في نفس الوقت، أشعر، مثل كثيرين غيري، بمذلة وبغبن، وأنا أسمع بأن سيادة أرضنا قد استبيحت، وكرامتنا كشعب قد تعرضت للمهانة، بعد أن تحولت بلادنا إلى مراتع يصول ويجول فيها أجانب، ويرتكبون ما شاؤوا من الانتهاكات من دون رادع ولا عقاب كما أكدت السيدة وليامز. والأسوأ، أن يتم كل ذلك بعلم وبموافقة ولاة أمورنا، رياسنا، الذين هبطوا من السماء بعد الانتفاضة، وأحالوا حياتنا في بلادنا جحيمًا، بسبب تنازعهم على سلطة أفقدوها ما أبقى لها ملك ملوك أفريقيا من هيبة.

حتى وإن كان «رياس» مركبنا قد برهنوا، خلال السنوات الماضية، وبالأدلة القاطعة على أنهم غير جديرين بالتسميات، وبالمناصب، بل وحتى بأقل ما يتوجب من احترام، لكن ذلك لا يمنعنا من السؤال: «وين السمي يا ريّاس؟»، وكيف ارتضيتم لنا كل هذه المصائب؟ ولماذا ارتهنتم بلادنا للأجانب؟ أليس فيكم «رايس» رشيد؟