Atwasat

بين دولة الحارس الليلي ودولة الإطباق

سالم العوكلي الثلاثاء 08 ديسمبر 2020, 11:40 صباحا
سالم العوكلي

يدور الحديث الآن عن أزمة الدول، وشكل الدولة، وشرعية الدولة، والدولة الفاشلة، فضلا عن الحديث الملتبس عن الدولة المدنية الذي يطرحه الكثيرون من (غير المدنيين بالمفهوم الثقافي) في وجه احتمالات الدولة العسكرية، مع أن هذا المصطلح برز كمقابل للدولة الدينية في أوروبا.
تتعلق الفلسفة السياسية؛ في سياق تحليلها لطبيعة الدولة، أو بالأحرى أشكال (الدول)ٍ، بدراسة طبيعة المؤسسات القسرية التي تتراوح بين الأسرة والدولة القومية وصولا إلى منظمات عالمية مثل منظمة الأمم المتحدة، وهي مؤسسات عادة ما تلوِّح باستخدام القوة من أجل التحكم في سلوك أعضائها، وتبرز سلطة منظمة الأمم المتحدة في حالة انهيار الدول الوطنية وعدم استقرارها حين تصبح للقانون الدولي أولوية على القوانين والتشريعات المحلية، وحيث البنود أو الأبواب في ميثاق الأمم المتحدة التي تفرض تدخلا شرعيا في هذه الدول (المستقلة) وبالتالي نوعا من الطاعة لإجراءاتها وقراراتها، بما فيها العقوبات التي تفرض أو التدخل العسكري المباشر.

في اليونان القديمة انشغل فلاسسفة مثل أرسطو وأفلاطون بتأمين تبرير للدول/ المدن، مثل أثينا واسبرطة، بعد أن أضحت المؤسسات القسرية ضرورية، بل ومرغوبة من المجتمع الذي تعقدت علاقاته، غير أن الرؤية الفوضوية أو ما يسمى بالأناركية تنتقد بشدة هذا الدور المركزي للقوة أو للمؤسسات القسرية، وإمكانية تعويضها بمنظمات اجتماعية واقتصادية خاضعة لنوع من التعاقد الطوعي، بينما دافع آخرون، مثل باكونين الذي كان له تأثير كبير بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عن استخدام العنف في القضاء على هيمنة المؤسسات القسرية، وقد ألهمت الفوضوية الحركة النقابية أثناء الحرب الروسية الأهلية، وثورة مايو الطلابية عام 1968 في فرنسا، غير أن النتاج الأوفر من فلسفة السياسة عمل على تبرير المؤسسات القسرية، وإن اختلفت التصورات حول طبيعتها.

فاللّيبرالية مثلا تصورٌ يبرر للمؤسسات القسرية بقدر ما تعزز من حريات فردية، وعند جون لوك تتجسد الليبرالية في نظام ملكي دستوري مع حكومة برلمانية، وتطرح هذه الرؤية التي سميت الليبرتانية السياسية القيود المفروضة على الحرية باعتبارها "أفعالا إيجابية" يمنع الناس من القيام في غيابها بما يريدون القيام به، وغياب الدولة أو تراجعها في الشأن العام يفسر حسب أدبيات الليبرالية بدولة الحد الأدنى أو ما يسمى "دولة الحارس الليلي" التي مهمتها فقط حماية المجتمع من العنف والسطو والخداع، غير أن التفسير الرعوي لليبرالية ــ وهو متفش في معظم مجتمعات العالم الثالث المتجاوبة مع الغرب ــ يذهب إلى حاجة المجتمعات لرعاية شاملة من قبل الدولة، ما يضع مبررات لدولة الرعاية الاجتماعية، أو الدولة التي تتحول إلى مؤسسة ضمان اجتماعي قهرية، كما في دول الشرق الأوسط النفطية، وكما العقود التي مرت بها ليبيا عبر خليط متضارب بين الفوضوية السياسية ودولة الرعاية الاجتماعية المخدومة باقتصاد ريعي، هو ما يجذر طبيعتها الرعوية ومن ثم يكرس مبدأ الرعية بدل المواطنة، وهي صيغة مشوهة لدولة الرعاية التي طرحتها بعض تفكرات الفلسفة السياسية.

جوهر الليبرالية، بكل تمظهراتها، هو الفردانية التي تعتبر حقوق الأفراد أولوية، ومعيار سياساتها الأخلاقي هو مدى تعزيز حرية الفرد وسعادته، في المقابل كانت الرؤية الجماعية أو الجماعانية المنبثقة من أعمال هيجل تذهب إلى أن للجماعة المنتمي لها الفرد حقوقا أساسية تُفرض حتى وإن تعارضت مع حقوق الفرد الذي يُفترض كي يحقق مبدأ المواطنة أن ينخرط في مؤسسات ومنظمات وممارسات جماعية يشكل عضوا فيها، وتعتبر الفاشية أكثر صيغ الجماعانية المتطرفة بفرضها دولة تسلطية ضد حرية الأفراد، أو كما في الاشتراكية القومية النازية، وعديد النظم العربية التي استلهمت هذا الشكل للدولة السياسية في مجتمعات ريعية على المستوى الاقتصادي، وقبَلية أو عشيرية على المستوى الاجتماعي، وعسكرية أو ووراثية غير دستورية على المستوى السياسي، أدت بها هذه النسخ المشوهة إلى الوصول إلى ما يسمى دولة الإطباق، خصوصا في النظم التي خلطت الأيديولوجيا (القومية أو الاشتراكية أو الدينية) بالنظم العسكرية، تحت مسمى جمهوريات لا تمت للقيم الجمهورية بصلة، لدرجة أنها كانت على وشك أن تتحول إلى جمهوريات وراثية، وبعضها تحول بالفعل.

نظريا تقف الدولة الاشتراكية في مقابل الليبرالية والجماعانية، حيث مبدأها الذي يحل محل حرية الفرد أو نفوذ المؤسسات هو المساواة، عبر تحكم الدولة الإكراهية في وسائل الإنتاج لتوجيهها في صالح الرفاهة العامة: "من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته"، ووفق ماركس ستتحول الاشتراكية تدريجيا إلى نظام شيوعي متسق "حين يصبح معظم العمل الذي يؤديه الناس في المجتمع مكافأة نفسه"، والصيغة الأخيرة من الاشتراكية التي تبرز عبر أحزابها في الغرب تحاول أن تعزز التحكم الديمقراطي في وسائل الإنتاج، وهي صيغة ترى أن الاشتراكية رغم ارتباطها بما يشبه دولة الرعاية الاجتماعية لا تتناقض مع الديمقراطية كبنية سياسية حين تدار وسائل الإنتاج بشكل ديمقراطي.

المهم، رغم كل تجليات وشروط هذه التصورات السياسية، فإنها جميعا عرضة للعصيان المدني المبرر، أو الثورة الضرورية، وهي ردود فعل غير قانونية من قبل الأغلبية المجتمعية احتجاجا على فشل هذه الرؤى في تحقيق وعودها أو أطروحتها النظرية التي أضفت عليها الشرعية بشكل أو آخر. فالعصيان المدني عمل غير قانوني مبرر يكون أحيانا احتجاجا على قوانين أو تشريعات ظالمة، أو نوعا من تصحيح فشل جزئي، ويحدث عادة في الدول الديمقراطية أو الليبرالية المتوجهة صوب حرية الفرد، أما في النظم المقابلة التي تنطلق من مبدأ الجماعية في مواجهة حرية الفرد، غالبا ما تكون الثورات التي تنبثق من الجماعية نفسها هي الحل حين يكون السبيل الوحيدة لتصحيح فشل جذري تعاني منه السلطة في تحقيق شروط أخلاقية أساسية.

في الدول الريعية ــ كما ليبيا ــ لا يشكل العصيان المدني ضغطا كبيرا على الدولة أو السلطة، لذلك فالبديل المتاح هو الثورة الجذرية، وغالبا ما سيعقب مثل هذا التغيير غير الآمن فوضى كبيرة، ستفضي في النهاية إلى بحث عن شكل للدولة وعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين السلطات والمجتمع، يجنب الأمة مغامرات أخرى مستقبلا حين يتحقق شرط أساسي للديمقراطية، بغض النظر عن شكل الدولة، وهو إمكانية التداول السلمي للسلطة، وهذا هو جوهر الديمقراطية الذي لم تصله معظم مجتمعات ما يسمى العالم الثالث رغم كل الديكور الديمقراطي الذي تتظاهر به، وحتى الدول التي ثبّتت هذا المبدأ في دساتيرها تحايلت عليه أول سلطة جاءت عن طريق هذا الدستور وفرغته من محتواه، ويرجع السبب إلى الطبيعة البشرية المتشبثة بالسلطة وامتيازاتها، إذا لم يكن هناك جهاز ديمقراطي صارم محمي بسلطة قضائية مستقلة، لا يمكن التحكم في تغيير قطع غياره وفق مزاج السلطة.

فأين يقع هذا المفهوم المعقد للدولة في التاريخ الليبي ضمن سرديتها السياسية منذ الاستقلال؟ إذا ما افترضنا أن ليبيا حتى الآن مرت بثلاث مراحل لشكل الدولة القسرية، بداية بالملكية الدستورية الوراثية التي كانت تستوفي بعض شروط الدولة المدنية، ثم الدولة العسكرية التي استمرت لأربع سنين تقريبا ضمن شرعية الانقلابات الدارجة في ذلك الوقت، ثم الدولة التي انزاح فيها العسكر إلى الخلف لتفسح المجال لأيديولوجيا جماهيرية فُرضت تعسفا، هي خليط من الاشتراكية الريعية والفوضوية السياسية والقبضة الأمنية، وصولا إلى ملامح الدولة الفاشلة كما نراها الآن. وباعتبار مفهوم الدولة لا يتعلق بالشكل فقط، بل بالبعد الفلسفي لهذه الدولة أظن ان هذا البعد المضموني لم تظهر ملامحة إلا في فترة العشرة أشهر التي تقلد فيها المحامي المثقف عبد الحميد البكوش رئاسة الوزراء، حيث أثير سؤال هوية الأمة لأول مرة، وطبيعة مؤسسات الدولة وفضاءاتها الحيوية التي تستجيب لهذه الهوية، بما يشبه رؤية جون لوك لمفهوم الدولة، الذي ترتبط نظريته في القانون الطبيعي ارتباطا وثيقا بنظرية العصيان.