Atwasat

قرقعة الكرباج

محمد عقيلة العمامي الإثنين 07 ديسمبر 2020, 11:04 صباحا
محمد عقيلة العمامي

بعض أولئك الذين يستخدمون عقولهم يقولون إنهم يحتاجون إلى الهدوء ليفكروا ويكتبوا، سواء أكانت من أجل الإبداع، أو لممارسة كتابة الاسترزاق العمومية، ويربطوا بين الهدوء والكتابة الفكرية، غير أن قليلين لا يتفقون معهم. رأيت خليفة الفاخري، أكثر من مرة، ينسحب من جلسة صاخبة، وينزوي غير بعيد عنها، ويكتب للحقيقة مقاله الأسبوعي، وقال لي إن صديقه صادق النيهوم أخبره أن تركيزه أكبر، وقدرته على الكتابة أفضل في الضوضاء، وأنه ذاكر المرحلة الثانوية في «منجرة» لأن ضجيجها، يجعله أكثر تركيزا!

قضيت مرحلة من طفولتي، في منزلنا بشارع محمد موسى، وكان يقع مباشرة أمام منجرة «سي عزالدين المدني» ثم باعها إلى «سي عبد الله خماخم»؛ أما صباي فعشته في شارع نبوس أمام منجرة «المكي والهادي الرعيض»، وكانت المنجرتان تعملان من الصباح حتى المساء. ولعل تلك النشأة هي التي جعلتني لا أتذمر أو أقلق من ضوضاء القاهرة، التي تبتدئ في تقاطع شارع لبنان وشهاب من الساعة الثامنة والربع صباحا بنقرات بائع أسطوانات الغاز، الذي ما إن يعبر بدراجته الشارع حتى ينطلق «عواء» سيارة مرور الجيزة التي «تُكلبش» إطارات السيارات المخالفة، معلنة في الوقت ذاته، بدء السيمفونية المتحركة لأبواق السيارات التي تجوب شوارع القاهرة حتى منتصف الليل، أو بعده بقليل!

الفيلسوف الألماني المتشائم «أرثر شوبنهار 1788- 1860»، الذي لم يمض في طريق أبيه نحو الثروة والغنى، وإنما حذا حذو والدته الكاتبة المتواضعة للقصة القصيرة؛ فتألق في الفلسفة والفنون والمقالات الهادفة، انتقى منها كتاب «أروع المقالات» ثلاثا هي: «الضوضاء» و«النساء» و«الانتحار». ولقد تسرعت واعتقدت أن ثمة رابطا بين هذه المواضيع الثلاثة، التي مررت باثنين منها وخشيت أن يقوداني إلى الموضوع الثالث! ولكنني لم أجد علاقة بينها، وإنما وجدت طرافة في مقالة «الضوضاء» التي لا أعرف ماذا سيحدث لشوبنهاور لو عرف ما يحدث في القاهرة الجميلة البديعة، التي أصبحت ضوضاؤها أغانيَ مبهجة قل ما يجدها المرء في عواصم مزدحمة مثلها.

ولعله من المفيد، أو على الأقل من باب التسلية، تلخيص مقالة الضوضاء هذه، التي ذكّرتني بصديق ظل يعودني شهرا كاملا، من بعد أن أجريت عملية جراحية عن «كالو» أو ما يسمى بمسار القدم في بطن رجلي، عجزت بسببه عن المشي شهرا كاملا بسبب حجمه. لقد هاجر صديقي هذا، إلى سويسرا، وتزوج من فتاة سويسرية، ظلت تشكو له شهرا كاملا من «كالو» ولما رآه ضحك وقال لها ساخرا: «أعرف صديقا ليبيا نبتت له رجل في (كالو) أصاب قدمه!».

ما كتبه شوبنهاور عن الضوضاء تلخّص في فرقعة السياط التي يستخدمها حوذيو العربات التي تجرها الخيول، باعتبار أنها كانت تستخدم في نقل البشر وبضائعهم في ذلك الوقت! وأن ما تصدره «ماصولة» الكرباج، وهي تلك الزائدة التي تصدر فرقعة عندما يستخدم في الهواء! هي التي ربطها بالضوضاء يقول فيها: «العقول الممتازة تبين دائما كراهيتها الشديدة للتشويش... وأن أكثر الأمم ذكاء وتعقلا تنادي: (لا تُقلق راحة الناس) وتضع هذه القاعدة، وكأنها الوصية الحادية عشرة، إنها ليست إقلاقا فحسب، بل هي تبديد للطاقة، وإن ضوضاء صغيرة مستمرة تقلقني وتبدد أفكاري، وكل ما أحس به هو زيادة الجهد في التفكير وكأنني أحاول المشي بثقل...» ثم ينتقل إلى سبب الوصية الحادية عشرة! فيقول:

«دعوني الآن أنتقل من الفصيلة إلى الأنواع. إن أشد الضوضاء دناءة هو قرقعة الكرابيج في الهواء» وهو في نظره «إجرام لا يغتفر، وهو عمل من أعمال الجحيم...»، ويواصل مقالته فيقول: «ومع كل الاحترام لمذهب المنفعة لا أرى كيف يُمنح الحق لرجل ينقل حمل عربة من فضلات الناس والحيوان من مكان إلى آخر، كي يقتل الأفكار التي لم تر النور، وهي على وشك الانبثاق من عشرة آلاف رأس.. ويقطع عليهم حبل أفكارهم.. إن نباح الكلاب وصياح الأطفال هي أشياء فظيعة على السمع، ولكن (قرقعة الكرباج) هي القاتل الحقيقي للأفكار!».

ثم يبين أن الدواب حساسة وأن فرقعة واحدة كفيلة بطاعة الحوذي، ولكنها أصبحت عادة له فيقتل بها مئات من أفكار المفكرين! ويستمر فيقول: «لا يجب أن يسمح (للكرارسية) مثلما نسمي الحوذيين، أن يقفوا حجر عثرة في طريق تطلعات الإنسانية العليا بعنادهم وإصرارهم المستهتر على إحداث الضوضاء». ويتأسف على «ضياع الأفكار العظيمة المجيدة» التي فقدها العالم بسبب «الماصولة» أو قرقعة الكرباج. ومع ذلك يظل المقال يستحق تأمله، من زاوية أن بناة العصر الحديث لم يتركوا صغيرة إلاّ وتأملوها ودرسوها، فوصلوا إلى ما هم عليه الآن.

وما إن أتممت قراءة مقال «شوبنهاور» طيب الذكر، حتى فرض سؤال نفسه عليَّ: «ماذا كان سيكتب عن أبواق عربات العصر الحديث، التي تبرّأت منها كرابيج العالم كله؟ وماذا سيكتب لو قدر له أن يعيش، الآن، في شارع من شوارع الدول العربية»؟!