Atwasat

الزائدي.. خيمة وحدت الوطن

سالم الكبتي الأربعاء 02 ديسمبر 2020, 02:23 مساء
سالم الكبتي

تلك الخمس. 1909 . أواخر العهد التركي في ليبيا الذي يترنح. الشط ولبدة والآثار. والنخيل والسواني. سبتموس وابنه كركلا. تاريخ يلتقي مع البشر والحجر والبحر. مدارس ومتصرفية وإدارة.

خليفة الزائدي وزوجته حليمة الشويهدي، يرزقان ذلك العام بابنهما علي. سيكون لاحقا قائدا عاما لكشاف ليبيا الذي حمل مسؤولية تأسيسه بعد استقلال الوطن وعودته من الهجرة في لبنان.

قبل تلك الهجرة، مثل الكثير من العوائل والأسر الليبية، كان الوالد ورجال المقاومة في المرقب يواجهون الاحتلال. الطليان يستقرون في الوطن. يجردون بكل صلف أهل ذلك الوطن من أموالهم وشردوهم تشريدا طال كل الأماكن وجعلهم يتفرقون في مصر وتونس وتشاد والشام.

في لبنان حياة جديدة. أسرة الزائدي الصغيرة هناك والقلب في الوطن هنا. ينضم إلى الأسرة.. إخوة لعلي، هو أكبرهم: مصطفى وإبراهيم وخيرية ومحمد. الأخير فقدته الأسرة في الحرب العالمية الثانية وغاب أثره تماما. يصير علي خليفة الزائدي من القادة الرواد في الحركة الكشفية العربية. يلتحق بجمعية الكشاف المسلم ببيروت عام 1927. رئيسها الشيخ توفيق الهبري الذي استقبل ورحب بالمجاهد أحمد الشريف حين أقام في بيروت لبعض الوقت عام 1924.

الكشفية العربية بدأت مسيرتها الطويلة عام 1912 عندما انطلقت في ديار الشام. ولقادتها الأوائل لمسات من الإخلاص ورعاية الشباب في بلدان العروبة لاتنسى. ذلك جيل الزائدي. علي الدندشي. ومصطفى فتح الله. ومحمد الهبري. ومحي الدين النصولي. ومحمد علي حافظ وعبدالله الزواغي. وجمال خشبه. وعزيز بكير. وغيرهم.

يعود الزائدي إلى الوطن أواخر 1953 عبر البحر من بيروت إلى الأسكندرية، ثم برا إلى بنغازي وطرابلس. الفقر والحاجة والعوز تشد الدولة إلى الخلف. بلاد خرجت من الحرب صفرا كبيرا. تداعك عليها الطامعون وخرجت منهوكة القوى. والشباب في فراغ. يكاد يفتقد الانتماء إلى الوطن .

أول فرقة كشفية يؤسسها الزائدي في أول فبراير عام 1954. كانت في مدرسة طرابلس الثانوية. احتوت سبعة وثلاثين طالبا. ثمة انطلاقات وإرهاصات قبل ذلك من خلال جمعية عمر المختار في بنغازي وحزب المؤتمر وأبناء المشيرقي في طرابلس. لم تنجح هذه المحاولات تربويا لأنها اتجهت إلى النشاط السياسي والتعبوي. والكشفية حركة تربوية في الأساس وفي كل الأحوال يحسب لتلك المحاولات النية الطيبة في جمع الشباب لخدمة الوطن.

نجح الزائدي المهاجر والوطني والعائد بحزم من الحماس والعزيمة الصلدة في تشييد الكشفية الليبية وأضحت عنوانا رائعا من عناوين الكشفية العربية والعالمية أيضا. فوجئ المجتمع بما يحدث على الأرض. شئ جديد. تطور ومشاركات وتحديث ومنهج وتربية وعمل خيري وخدمة الناس وتعزز ذلك بدخول الفتاة الليبية لاحقا. أسهمت بجهودها في حراك المجتمع وخدمته. يضاف إلى ذلك اهتمام الدولة والمسؤولين وولاة أمور الكشافين في الوطن كله. وجدوا في الحركة الكشفية شيئا آخر. لم يروه من قبل. الأفعال والتصرفات تصدقها الأقوال تحت كل الظروف. اختير ولي العهد راعيا فخريا للحركة في ليبيا ثم اختارته الحركة الكشفية العالمية راعيا فخريا لها في أواخر عام 1965.

الأيام شهدت نضال الزائدي الوطني والتربوي في إعداد شباب الوطن للمسؤولية والمستقبل. نضال تواصل ولم يتوقف مع تلاميذه وإصراره معهم على تحقيق النجاح والإيجابيات. لم يكن يحمل طاقة سلبية. لم يكن يعرف الوهن أو المستحيل.

انتشرت الفرق. والحلقات الكشفية على كل المستويات. الصغار والكبار. الفتيات والزهرات. وزادت الأنشطة. غابة سواني بن يادم ثم جوددائم وكافة المراكز الكشفية على امتداد الوطن. وعزوم الرجال. نهض جيل بالرسالة مع الزائدي بلا توقف.

ولم يترك الزائدي شيئا إلا واهتم به للتحسيس بقيمة الوطن وقدرة الكشفية الليبية على مواصلة النجاح وعدم التردد والركون إلى الفشل أو المستحيل. كانت المباني والمقار التي بنيت بتطوع الشباب الكشفي وحبات عرقهم وإخلاصهم والبعثات الدولية والعربية. صور وسطور. جيل ورسالة. ثم الاهتمام الكبير بالتراث الشعبي.

كان لدى الزائدي إحساس كبير يتعاظم بقيمة هذا التراث الوطني. طوعه لخدمة الأغراض الكشفية في الأهازيج والأعمال الفنية والسهرات. ابحثوا عن التراث. من عباراته واهتماماته الجميلة. الزائدي رجل ورسالة. حركة وأجيال. وأجمل ما في سيرته ونضاله الوطني والتربوي أنه جمع شباب ليبيا في خيمة واحدة رائعة. ليس هناك شرقاوي أو غرباوي. أو حضري أو بدوي. الكل وحدته الحركة الكشفية وأبرزت مواهبه الكامنة وخلقت منه جيلا نظيفا بمعنى الكلمة.

لم تبن الحركة وأهدافها على التمييز أو الجهوية. كانت ليبيا فقط في العين والقلب لدى كل الأجيال. والخيمة الواحدة ظللت الشباب دون تمييز. في سهراتهم وأنشطتهم ومناهجهم ووطنيتهم.

30 ديسمبر 1966. الصقيع والثلج يعمم جبال لبنان. والرجل يصارع هناك السرطان بكل شجاعة. كانت تلك الأيام يرافقها شهر رمضان أيضا. ثم يرحل الزائدي. لم يترك مالا. لم يبن جاها. لم يلم ثراء. كان أكبر من ذلك. أكبر درسٍ في وجوه اللاهثين من الأحياء الموتى وراء زيف الدنيا وغرورها وأطماعها. ظلت الخيمة الحزينة وحيدة تشكو فقده وغيابه.

كان الرجل قدوة للآخرين ودرسا من دروس الوطنية.. رغم الحزن والفقد الذي يشمل أرجاء تلك الخيمة الوحيدة. في وجه الريح.