Atwasat

سوء طوية بعض الحرية

سالم العوكلي الثلاثاء 24 نوفمبر 2020, 02:18 صباحا
سالم العوكلي

من اللافتات الشهيرة التي رافقت بدايات انتفاضة فبراير، وانتشرت في الأغاني وعلى الجدران مأثورة "ليبيا حرة"، وهي عبارة انبثقت في الغالب من اللاوعي الجماعي الذي كان يراوده إحساس بأن ليبيا كانت أسيرة أو كانت في السجن أو محتلة. كانت ليبيا بالمفهوم السياسي تتمتع بسيادة كاملة، فهي دولة مستقلة لا توجد فيها أي أراض محتلة أو قواعد أو نزاع على حدود، تتمتع بدخل قومي مهم وفق عدد سكانها، ومن المفترض وفق هذا المعطيات أن لا تكون تحت ضغوط أو خاضعة لأي تدخلات أو تواطؤات تفرضها قروض البنوك الدولية أو الديون أو التبعية الاقتصادية.

غير أن ثمة شعورا رافق أغلب الناس القاطنين فيها أنهم محتلون داخليا من قبل نظام أحسوا أنه لا ينتمي إلى أحلامهم في العيش ولا يعطهم أي نوع من طمأنينة الأوطان، ولا يتعاقد معهم بأي نوع من الوثائق القانونية التي تحدد علاقة السلطة بهم. باختصار كانوا تحت سلطة غامضة المعالم لا تمثلهم وليس لها أي شرعية من الشرعيات المعروفة في الدول، سواء كانت نظمها شمولية أو وراثية أو جمهورية، وبالمختصر كانوا يفتقدون إلى الحرية.

ربما بسبب هذه المشاعر الكامنة في اللاوعي، والتي حاولت أن تخرج مع الانتفاضة إلى سطوح الوعي الذي بدأت تلمع في الهواء الطلق، عَبّر الناس عن شعورهم بالحرية وسلكوا وفق هذا الشعور مسالك عدة، تراوحت ما بين البهجة حد العبث والارتباك حد الرعب، بدأت بحرية الكتابة والرسوم على الجدران مرورا برفع أعلام مختلفة تعبر عن مكونات هذا الوطن المكبوتة، وصولا إلى ما ترتبت عن هذه المشاعر المتضاربة من صراعات سياسية ودموية وصلت ذروتها .

مع الوقت تحول شعار "ليبيا حرة" إلى نوع من الطرافة أو النكتة يستخدمه هامش المجتمع في التعبيرعن كل فوضى، وعما عم البلاد من عبث في كل شيء. فمن يعتدي على أرض أو عقار ليس له، أو من يوقف سيارته وسط الطريق، أو من يصنع مطبا في الطريق العام، أو من يقتلع شجرة أو يستولي على شاطئ يفعل ذلك تحت شعار ليبيا حرة، أو أنا حر في اختياراتي.

بهذا المعنى، فإن الحرية حين لا ترافقها إرادة واعية لتسخيرها في إرساء دولة قانون، تدار فيها حريات المجتمع المختلفة بتوافق جماعي على عقد أو دستور ينظمها، ستصبح في أفضل الأحوال عابثة، وفي أسوأها مؤذية و قاتلة، والشعارات التي يُصدح بها لدرجة أن تفضي لعكسها ما يسميه سارتر "سوء الطوية" bad faith’ . وفي كتاب "متاع الفيلسوف" ترجمة نجيب الحصادي، يعبر المؤلفان، بتير س. فوسل / جوان باغيني، عن هذا المفهوم السارتري كما يلي: "هل حدث أن أمسكت شيئا ذا قيمة بيديك – مزهرية، تحفة نادرة، أو وليدا على سبيل المثل – ووجدت نفسك دون سبب ظاهر مرعوبا من أن يسقط منك؟ هل حدث أن وقفت في بلكونة عالية أو على حافة جرف شاهق ووجدت نفسك خائفا من أن تقع أو تصاب بمكروه؟ إذا حدث لك هذا، فلست وحدك. الفيلسوف الفرنسي، جان- بول سارتر، لا يرى في هذه الخبرات الشائعة مجرد ظاهرة نفسية، بل شيئا غاية في العمق بخصوص الخبرة البشرية: حريتنا المطلقة.".

ثمة تعبير دارج يصف هوس المصلحين أو الثوار عموما بفرض أطروحاتهم على الآخرين بشكل متعسف دون حتى أن يستشاروا أو تترك لهم فرصة الاختيار، بكونهم يقودون الشعوب إلى الجنة بالسلاسل. فكرة "إن التاريخ والاقتصاد يتطوران نتيجة أفعال الحرية البشرية وحدها" شكلت المدخل الوجودي لنقد الماركسية التي رأت في العوامل التاريخية، والاقتصادية المهيمنة، عواملَ مُحدِّدة للسلوكَ البشري على مر التاريخ، ولهذا السبب تعرضت ما سميت الحتمية الاقتصادية الماركسَية لتهمة كونها فلسفة سوء طوية، كما ذهب الطبيعانيون إلى مفهوم آخر لسوء الطوية حين أكدوا أن الكائنات البشرية ما هي إلا استمرار للعالم الطبيعي ونتيجة له. ولأن كل ما يحدث في الطبيعة محتم بقوانين سببية، والأفعال البشرية مجرد حوادث طبيعية، فإن البشر مرتبطون قدريا بهذه السلاسل السببية، وبالتالي هم في الأصل ليسوا أحرارا، ووجودية سارتر نبعت من نقده الحاد لهذه النظريات الحتمية حين اعتبر الوعي البشري منقطعا تماما عن العالم الطبيعي "الوعي ينفي ويميز نفسه عن الأشياء والعمليات الطبيعية. والتظاهر بخلاف ذلك سوء طوية."

حسب سارتر: "لا يتمثل المروِّع في إمساك وليد أو الوقوف على حافة جرف فحسب في وجود قوة خارجية أو حدث قد يفاجئنا ويرغمنا على القيام بسلوك بغيض؛فأبعد غورا من هذا أننا قلقون لأنه حرفيا لا يوجد شيء يوقفنا عن إسقاط الوليد أو دفع أنفسنا إلى الموت. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقفنا في مثل هذه المواقف (بل في أي موقف) عن القيام بأعمال رهيبة هو أنفسنا – حريتنا في الاختيار غير المقيدة بأي شكل في ألا نقوم بذلك.".

الحرية في الاختيار تبدو كأساس وجودي لمفهوم أن تكون إنسانا "قد تكون هذه المصادرة هي السبب وراء ظهورلافتة ليبيا حرة حين أحس الناس أن بإمكانهم التحرر من وصاية تامة فرضتها أيديولوجيا غائمة تعتبر أن كل الحلول قابعة في عودة الناس إلى الطبيعة أو ما يحتمه التاريخ كقدر أرضي، وبالتالي فإن الدستور، والمؤسسات، والقوانين ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب وغيرها مظاهر حرية اختيارٍ تقوض هذا النزوع الشمولي الذي يعيدنا إلى تشارك كل الكائنات طبيعة عيشها على الأرض، ليصبح الأمن والغذاء الذي تتمتع به قطعان الماشية غاية هذه المجتمعات المدربة على الخضوع، عائدة برضاها إلى عبادة (المُقدّر الحتمي) وسجونه وقمعه طالما الطبيعة توفر لها رغباتها التي تجعلها مستمرة في العيش، أما باقي القيم الحديثة فإنها تحرر البشر من الخضوع لهذه السلسة السببية للحياة المرسومة مسبقا إلى مختبر الاختيارات الحرة التي تهدد الورع الشعبي تجاه السلطة، وهذا الاتفاق في سوء الطوية هو الذي يلتقي فيها المستبدون التقليديون مع توجهات الدين المسيس الآن الذي يصر على أن كل شيء مكتوب ومحدد في الشريعة أو في اللوح الأزلي، وهذا ما جعلني أصف سابقا مسودة الدستور الأخيرة بأنها نص (سوء طوية) بالمفهوم السارتري.

وبالمقابل فإن هالة الوجود في الحرية المطلقة عادة ما تثير الخوف والقلق الذي يصيب الآخرين من هذه المفردة، وما يلحق بهم من رعب حين يجدون أنفسهم في قلب رغبة طالما حلموا بها، مثل الارتباك الذي يصيب العبد حين توهب له حريته فجأة، وهذا الرعب قد يصيبهم بانتكاسة تجعل الحنين يراودهم إلى حياة ما قبل صدمة الحرية، وفي أفضل الأحوال تتحول هذه القيمة إلى موضوع تفكه وسخرية حين يصابون بالهلع منها.

"ومفاد الأمر، كما يناقش المؤلفان: "لأن الوعي بالحرية قد يكون مشحونا بالقلق، فإن الناس يهربون منه ويحاولون الاختباء من حريتهم، ويتظاهرون بأنهم ليسوا في الحقيقة أحرارا. وحين يقومون بهذا، أي حين ينكرون حريتهم، يكونون حسب تعبير سارتر أصحاب طوية سيئة".

تعريف "سوء الطوية" كما يرد في قاموس كيمبريدج للفلسفة:
(1)حالات خداع النفس؛ (2) رفض غير حقيقي ومضلِّل للذات لقبول حريتنا الكاملة أمام أنفسنا وأمام الآخرين، كي نتجنب القلق في اتخاذ القرارات ونتنكّب المسؤولية عن الأفعال والمواقف (3) النفاق وعدم الصدق في الكلام والسلوك، كما في إعطاء الوعود دون نية البرّ بها. ومن بين استراتيجيات سوء الطوية التي يتحدث عنها سارتر تبنّي رؤى الآخرين لتجنّب الحاجة إلى تشكيل آراء تخصنا؛ واستبعاد البدائل بحيث تبدو حياة المرء كما لو أنه محتّم أن تسير في اتجاه ثابت. أحيانا يستخدم سارتر معنى آخر أضيق: الاعتقادات المضلِّلة للذات التي تُتبنّى تأسيسا على تأويلات للشواهد يعوزها الصدق والوجاهة، في مقابل خداع الاعتراف "الصادق" بحقيقة ما (أنا أميل إلى أن أكون لصا) بغية إنكار حقيقة أعمق (أنا حُرٌّ في الاختيار).*

* قاموس كيمبردج للفلسفة، الطبعة الثانية، تحرير روبرت أودي. ترجمة نجيب الحصادي. قيد الطبع.