Atwasat

فن الكذب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 23 نوفمبر 2020, 12:04 مساء
محمد عقيلة العمامي

صاحب رحلات جليفر طلب أن يكتب على قبره: «هنا يرقد (جوناثان سويفت) حيث لا يستطيع الغضب العنيف، بعد الآن، أن يمزق قلبه» . قد يكون غضبه العنيف هذا لأن "رحلات جليفر" اعتبرت كتابا للأطفال!.

لولا افتقار(سويفت) إلى المركز الاجتماعي والثروة ومرونة الطبع، لكان من أكبر السياسيين، فهو سياسي بالإضافة إلى كونه كاتبا، وشاعرا، ورجل دين متميز حتى أنه أصبح عميدًا لكاتدرائية في دبلن وعرف باسم «العميد سويفت». وتعتبره موسوعة (بريتانيكا) من أهم هجّائي النثر في اللغة الإنجليزية.

رحلات جيلفر التي اعتبرت مواضيعها قصصا خيالية للأطفال، ولكنها في الواقع، نقدية رمزية وأيضا ساخرة، وهو الأسلوب الذي يتقنه، ومع ذلك تعد من أكثر ما كتب عن الجنس البشري من وحشية. وقد كان أسلوبه التهكمي الجامد في الكتابة، الذي يتضح في عمله «اقتراح متواضع»، سببًا لتسمية هذا الأسلوب في الهجاء «بالسويفتي» نسبة إلى اسمه.

ولما رحل (جوناثان سويفت 1667- 1745) ترك كل ما يملكه لتأسيس مؤسسة للأمراض العقلية. من أعماله التي وردت في كتاب روائع المقالات الذي أشرنا إليه في السابق:

2 - فن الكذب في السياسة
يستهل مقاله بتقرير ديني إلى حد كبير؛ فيقول: "الشيطان أبو الكذب" فكذبه في بداية الخلق ضيع ثلث البشرية بخروجها عن طاعة خالق الكون". ولكنْ "أبو الكذب" فقد الكثير من شهرته، بسبب تفوق السياسيين عليه بما أدخلوه من تحسينات وابتكارات خجل منها "أبو الكذب" نفسه! وهو الذي ظل يصحو باكرا، في أي مكان في الدنيا، ويتسكع في الأسواق والكنائس، والبارات وحفلات الزواج لأنها بيئة مناسبة لاصطياد من يجد فيهم مدخلا يبعدهم عن الحق.

ولكنَّ السياسيين، وجدوا بيئة مثالية أفضل بكثير مما يفضله "أبو الكذب"، فمن بعد أن تهدأ الاضطرابات والثورات وتتشكل التجمعات، يصحون لها مثله، باكرا ليتصدروا منصات الخطابة، والقيادة والتوجيه. فالاضطرابات والثورات والحروب تؤذي النفس وتخلق حالة من الرعب النفسي الداخلي، بسبب القلاقل التي تربك الإنسان، خشية العوز وقلة الأمان وانقسام الناس والصدام والاقتتال. فيجد أبو الكذب، أو السياسي، وسيلته للتسلل متصنعا اهتماما كبيرا للتفريج على هذه النفوس متطوعا بمسح همومها، بخلق وعود وحياة هانئة آمنة- ومدينة جميلة مثل دبي!- وكل ما يحتاجه السياسي هو تزيين بؤس الواقع بترف خيالي يمكن تحقيقه لهذا الهالك المخدوع والمهزوم، أو ذلك الذي تخلى عنه الرفاق، وتركوه منسحقا مقرورا. وقد يزينون الحال للهالكين والمظلومين والذين فقدوا سلطانهم، أو الذين خُدعوا وتركوا وراء الركب المنطلق نحو مصالحه. قد يزينون طريقا لمن تركوا خلف الركب يعيد إليهم ما حلموا به ولكنهم خدعوا، وينبهونهم باعتبار أنهم أصحاب حق، يتعين أن يستعيدوا سلطانهم ويحتفظوا به، وبالطبع يزينون لهم الانتقام لأنفسهم جراء ما أصابهم من ظلم.

كل ذلك يطرحه "أبو الكذب" يضعه في متناول سياسيين يجيدون الكلام، وهكذا يكون الكذب كأسنان الحيوان الشرس يعض من يقف في طريق غايته. كل ما هو مطلوب كذبة براقة يحلم بها القلقون، تولد في رأس سياسي يرتبها ويزينها، ويسلمها إلى الغوغاء فينطلقون بها كاملة التكوين نحو غاية الشيطان.

الكذبة تولد مثل معظم الأطفال، كل ما تحتاجه هو الزمن لتنضج. قد تكون كريمة الأصل، ولكن غايتها ليست كريمة، قد تزينها شعارات الحرية، والثورة والتسامح والاعتدال، ولكن من ينادون بهذه المثل غايتهم لا علاقة لها بمضمونها، وإنما بمصالحهم. فمهمة الغوغاء نشر ما يريده السياسيون والصراخ من أجلهم، أما ما يريده " أبو الكذب" فذلك شيء آخر.

الكذبة القوية هي تلك المخادعة التي ألبسها "أبو الكذب" ثوب الحق وعجز الغوغاء عن التمييز بين الحق والباطل، وبين أصدقائهم وأعدائهم. ثم سريعا ما نرى أموالنا تتسرب إلى أولئك الذين تسيدوا الموقف ثم انسحبوا بعيدا وتركوا الغوغاء ينتظرونهم عند نواصي الشوارع في المقاهي، وأحيانا المواخير.

ولكن "جوناثان سويفت " يقول في آخر مقالته هذه: أنه يحاول أن يزيل الغشاوة عن أعين الناس، وينبه أن جنون الغوغاء كان بحسن نية، وأنهم سريعا ما يشفون منه. ولكن الوقت يكون فات، وأن أبناء "أبو الكذب" قد طاروا بعيدا محملين بما استطاعوا، من الخيرات، التي مات من أجلها البسطاء وصرخ من أجلها المغيبون. ومع ذلك يؤكد أن الحق سيزهق الباطل في النهاية، وأنه لابد من الحق "وإن طال الزمن"!.

أمانة النقل تفرض التنبيه إلى أن جوناثان سويف لم يقل "وإن طال الزمن"!.