Atwasat

كاترينا كارنارو.. معمرة يونانية نموذج من أمهات الماضي

عبد السلام الزغيبي الإثنين 09 نوفمبر 2020, 01:39 مساء
عبد السلام الزغيبي

حين قرأت خبر رحيل "كاترينا كارنارو" المعمرة الأكبر في اليونان، عن عمر يناهز 115 عاماً، عزمت على معرفة قصة حياتها، علني أجد شيئا جديدا يروي ظمئي لمعرفة الخيوط السرية الكامنة خلف هذه الأعوام المديدة. تصفحت عدة مواقع يونانية باللغة اليونانية والإنجليزية، وعثرت على قصة حياتها ومقابلة أجريت معها قبل سنوات.

كاترينا، ليس مجرد اسم لامرأة يونانية معمرة رحلت وانتهى الأمر، بل حكاية تستحق أن تروى لنأخذ منها العبر، كونها عاشت حياتها وفقاً لرغبتها، وكافحت لتغدو شاهدة على تغيرات شهدتها اليونان خلال أكثر من قرن.
ولدت المعمرة اليونانية في بلدة جريلوس في إقليم بيلوبونيز، وانتقلت لاحقاً إلى مدينة كريستينا القريبة، حيث عاشت مع عائلتها حتى رحيلها. في الثالثة عشرة من عمرها أسدلت الحرب العالمية الأولى ستارها الأخير، وفي التاسعة والثلاثين عاماً من عمرها، غادر النازيون اليونان عام 1944.

كأم شابة، عملت "كارنارو" في زراعة الحقول وتربية الماشية، وهي من الأعمال التي وصفتها بالشاقة، ليس لأنها تتطلب القوة والتحمل فحسب، بل لأنها تقضي وقتاً طويلاً بعيداً عن أطفالها. ورغم الأوقات الصعبة، إلا أنها قالت إنها تعتقد أن الوقت آنذاك كان أفضل من اليوم.

أفضل ذكريات حياتها كانت اقترانها، رغم أن عائلة زوجها لم توافق على تلك الزيجة في البداية.

التقى الزوجان أثناء عملهما في الحقول، ووقعا في الحب على الفور، رغم فارق السن الذي يفصلها عن زوجها "سوفوكليس".

لجأ "سوفوكليس" إلى حيلة ذكية بالاتفاق مع أصدقائه من أجل إتمام عملية الزواج من حبيبته. فذات يوم، تجول في البلدة بلا قميص، وهو أمر غير مقبول في ذلك الوقت، ثم عاد إلى المنزل وحبس نفسه في غرفته. اتصل والده بالطبيب المحلي على الفور، بعدما شعر بالقلق من تصرفات ابنه. قام الطبيب، الذي كان مشاركاً في المؤامرة، بفحص سوفوكليس، وأخبر والده أن ابنه يعاني من مرض نفسي وأن "قلبه مكسور". سأل والده إن ثمة امرأة يحبها ابنه، اعترف والده بوجود الحبيبة، لكنها أكبر منه سناً.

نصح الطبيب، الأب، أن يزوج ابنه حبيبة قلبه وإلا ساءت حالته النفسية أكثر وفقده للأبد. بعد ذلك رضخت العائلة للأمر وتم الزواج. لكن حياتهما معا لم تدم طويلاً، فالأمر انتهى برحيل بزوجها في سن مبكرة نسبياً، وكان على "كارنارو" تحمل مسؤولية البيت والأطفال والحقل والإشراف على تربية الماشية وحلبها وصنع الأنسجة من صوفها، وهي مسؤوليات كبيرة تحملتها بشجاعة، مثلها مثل النساء المكافحات اللواتي يملأن الدنيا.
ورغم الصعوبات الكبيرة التي مرت بها خلال منعطفات حياتها، غير أنها قالت أنها "كانت في صحبة أهل الخير" وأنها مدينة بحياتها الطويلة إلى لله، وإلى صحبة عائلتها، التي امتدت إلى أحفاد أحفادها، وتعدها الثروة الحقيقية.

أما عن سلامة بدنها وعقلها لأعوام طويلة، قالت أنه يعود إلى الغذاء الطبيعي والعمل والنوم المنتظم، وأنها كانت تحب تناول الزبدة والقشدة والجبن والدهون الحيوانية، وتسخر من فكرة الحميات الغذائية. لكنها بالمقابل كانت تتناول الخضروات والفاكهة، وكل ما تنتجه الأرض، إلى جانب زيت الزيتون.

وعندما سئلت عما ستقوله لشباب اليوم، أجابت ببساطة: "إذا كنت شخصاً جيداً فسيحبك الجميع. وإن لم تكن كذلك، فلن يرغب بك أحد، وهذا سر تعاسة أي إنسان".

في هذا المقام أتذكر أمي (نواره) يرحمها الله، التي أصبحت أرملة في زمن مبك٬ تركها أبي عشر سنوات، لتؤدي دور الأم والأب معا. ربتنا (ستة من الذكور وثلاث من الإناث) تجهز كل شيء بيديها المتعبتين، تغسل ملابسنا بالصابون الأخضر الصلب "السوسي" قبل اختراع الغسالة، وتغسل الصحون بمسحوق غالبا ما يترك أثره على الكفين. تطهو طعامنا باستخدام "بابور الجاز" متحايلة علينا بإعداد كل ما نحبه. تطحن الحبوب في الرحاية، وتبرم حبات الكسكسي بيديها قبل توفر الكسكسي الجاهز، وتضيف الكسبر المطحون إلى قهوة "الرجريجي". تعجن الخبز بيديها ثم يحمله أحدنا إلى فرن الصالحين في شارع قصر حمد.

في أيام الشتاء كانت تجهز كانون النار للتدفئة، وإعداد القهوة والسحلب والشاي، مع ما يتوفر من الكاكاوية واللوز، مترافقة مع حكايات شعبية لا تزال عالقة في الذاكرة.

هكذا كانت حياة أمهاتنا في الماضي، توزعت بين العمل والشقاء والتضحية والعطاء بلا حدود.. قدمن أفضل ما لديهن للأبناء ليغدو مصدر فخرهن وعزتهن.