Atwasat

سلوك مخلوقات الله

محمد عقيلة العمامي الإثنين 09 نوفمبر 2020, 01:10 صباحا
محمد عقيلة العمامي

من بعد أن تقاعد صديقي خليفة الفاخري من العمل الدبلوماسي، التقى بأحد رفاقه إبان عملهما في الدنمارك، وسأله عما يعمل الآن، فأجابه ساخرا: "أسترزق من أخطاء الآخرين!" كان حينها يصحح صحيفة "أخبار بنغازي" وأيضا مجلة للهلال الأحمر، أما مجلة الثقافة العربية، فأصبح مُصححها عندما كان الأستاذان: محمد حسن البرغثي، ثم محمد على الشويهدي رئيسي تحريرها، فالأستاذ محمد على الشويهدي كان من مؤسسيها، ثم كُلف بمجلة الموقف العربي التي اصدرها من قبرص، ثم بعد عودته من قبرص تولى ثانية رئاسة تحرير الثقافة العربية. 

في تلك الأثناء كتبتُ "أسماك المتوسط" فصححه الفاخري وكَتبَ تقديمه؛ كانت معلومات كثيرة عن الأسماك وسلوكها أستقيتها من رياس رصيف الصيادين، وهي معلومات كتبتها أثناء ممارستي الفعلية لصيد السمك، وظللت أدون هذه المعلومات وأضيف إليها ما أترجمه من الكتب المتخصصة. وكنت أحكي للفاخرى عن غرائب سلوك الأسماك، وكيف يعرف الصيادون الكثير عنها، فهم يعرفون، على سبيل المثال، متى وأين تكثر أسماك معينة، في وقت محدد في منطقة بعينها؟ وقارنتها له بما وجدته في المراجع، فأسماك السلمون تضع بيضها تحت القاع أسفل مجرى مياه النهر، وعندما تفقس يأخذ التيار اليرقات إلى البحر وتظل هناك طوال عامين في المياه المالحة، وعندما يكتمل تكوينها تعود إلى مكان انبعاثها من بيضها في النهر.

وحكيت له أن العلماء أكدوا أن ذلك بسبب حاسة الشم القوية، التي هي نفسها تقود النملة إلى مسكنها، والفراشة لنصفها الآخر! وذكرته بآبار بيوتنا الارتوازية، التي كنا نشرب منها حتى خمسينيات القرن الماضي، وبحنش البحر الأخضر الذي كان يعيش بها. فهذا الحنش المبارك، اسمه العلمي -Anguilla anguilla - كان ينظف آبارنا من (الزغلان) وهي يرقات الضفادع، ولا يبيض طالما هو في الأسر، ولكن إن كان حرا في البحيرات القريبة من البحر، ما إن ينضج حتى يمتنع عن الأكل، ويزحف من أقرب نقطة قريبة من البحر وينطلق، على سبيل المثال، من بحيرة المنزلة عبر المتوسط نحو بحر (سرجاسو)، في رحلة تستغرق سنتين ويبيض هناك ويموت.

ولما تفقس يرقاته الشفافة تعود في رحالة تستغرق ثلاث سنوات وتصل البحيرة وتعيش بها إلى أن تعود ثانية من بعد أن ينضج مبيضها. سلوكيات هذا الحنش (المرابط) مثلما كنا نسميه ما زالت لغزا؛ وحتى الآن لم يصل العلم إلى عمق النقطة التي يضع فيها بيضه. وأخبرته أن الصيادين يربطون بين مواشير بعينها ومواعيد "النّوات" البحرية، فمثلا كان بعض الصيادين يقايضون الأبقار مع مالطا بالماعز المالطي. ولهذا السبب كانوا لا يبحرون بحيواناتهم عند اقتراب مواعيد النوات البحرية، فهياج البحر والعاصفة يُقلق الأبقار عند اقترابها من البحر، ولا تستكين في المركب أو "الفلوكة" أبدا طالما هناك عاصفة مرتقبة. وبسبب حكاياتنا عن هذه المعلومات قال لي ذات ليلة: "مثل هذا التخصص يندُر أن تجد له كتابا باللغة العربية، وهو من المواضيع التي تشد القراء، على الأقل من باب الطرافة " مؤكدا أنه لوأني كتبتُ عن الريّاس وتجربتهم، وخبرتهم في معرفتهم سلوك الأسماك سيكون الموضوع مُثيرا. وأصدرت كتاب "سلوك الأسماك" الذي قدم له الأستاذ عبد الكريم الدناع، وأُعجب الفاخري به، حتى إنه وظّف بعضا من معلوماته في بعض من مقالاته.

وبالفعل نفد كتاب سلوك الأسماك، قبل بقية المجموعة. ولذلك اقترح الفاخري على رئيس تحرير مجلة الثقافة العربية، نشره بالمجلة على حلقات فوافق. كان حينها الأستاذ محمد حسن البرغثي قد كلف الأستاذ حسين مخلوف، من بعد خروجه من السجن بالتنسيق لندوة أسبوعية بمكتب المجلة والإشراف عليها، ودعا إليها عددا من الكتّاب والأدباء، واظب الأستاذان الشاعر محمد الشلطامي، وأيضا الدكتور محمد المفتي، اللذان خرجا من السجن في تلك الآونة على حضورها، وغالبا ما كان يحضر هذه الندوات الأساتذة خليفة الفاخري وعبدالرازق بوخيط، وحسن بن عامر والشاعرات الكاتبات الرائدات: تهاني دربي، خديجة بسيكري، وليلى النيهوم، وفاطمة الورفلي..وغيرهن. ذات يوم وفيما كُنا في ندوة من تلك الندوات، جاءنا الأستاذ محمد حسن البرغثي، يحمل وريقات في يده، واقترح مناقشتها. كانت تلك الوريقات نقدا من "متسلق" ثوري، ينتقد كيف أن الثقافة العربية أصبحت "مزفرة" بسبب مواضيعي عن الأسماك والصيادين! واقترح الأستاذ محمد أن تكون ندوة ذلك اليوم عن مفهوم الثقافة، وطلب من مدير التحرير نشر رأي كاتب النقد، والرد عليه من خلال ما توصلت إليه تلك الندوة، وبالفعل تم الرد والنشر.

ولكن يبدو أن تلك الرسالة كانت تمهيدا لإبعاد الأستاذ محمد حسن البرغثي عن المجلة فيما بعد، لأسباب لا علاقة لها لا بالحوت ولا بزفرته، بقدر ما كانت رأي بعض أولئك الثوريين الذين حجّموا الثقافة، وأيضا بسبب تصنيفهم للمساهمين في تلك الندوات باعتبار أن بعضهم كانوا سجناء رأي وحزبيين.