Atwasat

أعوام الرماد

سالم الكبتي الأربعاء 04 نوفمبر 2020, 10:54 صباحا
سالم الكبتي

السبت الثاني عشر من أغسطس 1961. في ذلك الفندق بفرانكفورت. ألمانيا. تلك العشية تدخل الزوجة صوفية زهير إلى الغرفة. ثم صدمة عنيفة تعتريها وصراخ بلا توقف. زوجها صالح بن يوسف ملقى وسط الغرفة والدماء منه تسيل.

مسدس كاتم للصوت قام بالمهمة. ثم فارق صالح الحياة. بكاء وعويل يستمر في وحشة الغربة والموت. هرب الجناة. كانوا من التونسيين الذين أرسلهم رفيق الكفاح الحبيب بورقيبة لأداء ذلك الفعل عن جدارة. كان من بين القتلة ابن خالة صالح بن يوسف. ترصد وملاحقة لم ينقطعا منذ أيام. وصل الحال بين الغريمين صديقي، الماضي أعداء اليوم، حدا لايوصف من الصدام.

آخر لقاء جمعهما كان في مارس ذلك العام في جنيف على البحيرة. تلاسن وحدة في النقاش واختلاف أدى إلى العنف في النهاية. النتيجة الطبيعية للحال العربي في الزمان والمكان على الدوام. اعترف بورقيبة رفيق وصديق الأمس البعيد بالفعلة عام 1973علنا أمام الناس في خطاب له بالتلفزيون التونسي مشيرا إلى أن بن يوسف محكوم عليه بالإعدام في الأصل .

تلك الأيام الصيفية أيضا شهدت بداية معركة بنزرت مع فرنسا. قتال ومقاومة وشهداء. يصل همر شولد أمين الأمم المتحدة إلى هناك ليتفرج عن قرب ويحيط مجلس الأمن بما رأى وسمع. وقبل بنزرت ينغرز جدار برلين بين ألمانيا الواحدة ويفصلها إلى شطرين. تداعيات مابعد الحرب العالمية الثانية والصراع بين الشرق والغرب الذي لم يكن في الغالب باردا وإن لاح كذلك. وانتحار همنجواي الروائي الشهير ثم عبد الباسط الصوفي الشاعر السوري الذي أرسلته دولة الوحدة معلما في غينيا. ووفاة شاعر الوطن أحمد رفيق. صيف لاهب في المنطقة والعالم. تموز حيث يغلي الماء في الكوز ثم آب اللهاب.

بن يوسف المولود في مغراوة قرب جربة شرقي تونس عام 1907. من بيئة زيتونية متعلمة. نهض بنشاطه لاحقا تجاه وطنه. قاوم احتلال بلده مع رفاقه في الحزب. انتمى إلى مدرسة عبدالعزيز الثعالبي. مثل تونس ضمن وفد مغاربي في باندونج عام 1955 قبل الاستقلال ضم أفرادا من المغرب والجزائر وجاهروا بصوتهم من أجل الحرية. وهناك تكلم باسمهم وباسم شعوبهم. كانت أقطار المغرب العربي تحت سكين فرنسا بلا هوادة.. لكن النضال من الجميع لم يتوقف أو يرتعش في أي وقت. أمثلة من التضحية باهرة وكثيرة.

تقاطع بن يوسف مع بورقيبة عدة مرات. لعبة السياسة التي تفرق بين الرواد وتحيلهم إلى قطع متناثرة. اختلفا وتصارعا ولم يتوافقا. الزعيم وتضخم الأنا طبيعة لاتستقر على حال. ورغم أن بن يوسف الزيتوني الثعالبي المؤمن بأهدافه تولى أمانة الحزب الدستوري التي ضمهما بطربوش واحد وكشابية واحدة أيضا إلا أن الصراع بينهما لم يخمد لهيبه المستعر. كل له كاريزما. كل له أنصار. كل له طربوش. كل له رؤية ومنهج وظلت (اليوسيفية) فيما بعد جريرة تتابع جميع من يرفع صوته بمعارضة الزعيم الأوحد.

بورقيبة الذي خلع الطربوش والباي وأبعد بن يوسف بطريقة أو بأخرى كان يرى أن سياسة المراحل والتفاوض أيسر الطرق. خذ وطالب. الأمر الواقع ومسايرته بتلك السياسة. غريمه بن يوسف رفض ذلك وقاوم ووقف في وجه هذا الأسلوب ولم يتفق معه حتى اتهامه علنا من قبل فرنسا وبورقيبة نفسه بأنه يقود الفلاقة الذين يقضون مضاجع الفرنسيين في الجبال والضواحي. كانت الأسلحة في بداية الخمسينات تأتي من ليبيا عابرة الحدود القريبة المجاورة. وبن صالح ظل يرى أن تونس أقرب إلى تيار العروبة والإسلام. وبورقيبة له طريق آخر ورأي آخر. اختلاف وتصدع وشروخ في علاقات النضال الذي كان بالأمس .

ظل صالح بن يوسف لاجئا في ليبيا. آوته وحمته الدولة الليبية وقبضت سلطاتها على اثنين أرسلتهما تونس لتعقبه واغتياله في طرابلس حيث يقيم واعتقلتهما. كانت طرابلس تحمي الكثير، لكنها تكتم الأسرار وتخفيها في شواطئها أول النهار وآخر الليل. ثم احتوته القاهرة وهناك واصل نشاطه العروبي ولم يهدأ في حارات القاهرة. تولى رئاسة مكتب المغرب العربي. هناك كان عبدالناصر والشعور القومي والخطاب الهادر في الساحات والميادين وصوت العرب يعبر المسافات. وبورقيبة يولي ظهره ذلك. تونس ليست معنية بالأمر. لا يهمها مايحدث في البعيد. كل أدار وجهه للآخر. وخسرت تونس التي حصدت مافعلته المحاريث والنوارج. بدأت مرحلة العنف والملاكمة بين الرجلين. والأنصار يحيطون بكل منهما. وبن يوسف لم يبد أية مرونة أو تساهل. تصلب ورفض وطفح الكيل بالزعيم الذي طالته تهم الخيانة من رفيق الكفاح وأنصاره في الداخل والخارج.

صار طريق المسدسات والكواتم منهجا جديدا في المنطقة. لم يكن بن يوسف الأول. لم يكن الأخير في القوائم الطويلة. العنف والتصفية والاغتيال أضحت سمة بارزة بين رفاق الأمس. أو بين أصحاب القرار والكرسي الواحد وبين أهل الصفوف الخلفية. حدث ذلك بين البعثيين والشيوعيين في العراق ورموا بعضهم جثثا في براميل القمامة والسجون المعتمة والسحل والمشانق وكذا في سوريا وفي اليمن. قبيلة الحزب أقوى من الوطن. الأحزاب كلها قبائل وعائلات ومصالح. وفي ليبيا كانت التصفية الجسدية آخر المرحلة الجدلية مع (القوى الرجعية) وفقا لنهج اللجان الثورية. ملاحقات وتصفيات فوق أرصفة العالم وشوارعه وكراسي مقاهيه وحجرات فنادقه. السلطة لها ما يبرر أفعالها عندما تنتقم. السلطة العاتية لايقف في طريقها أيما شئ. وتواصلت الطرق نفسها وتشعبت واتفقت في أشكال الانتقام عند الجماعات والمليشيات المسلحة. الكواتم أعلى صوتا أيها الوطن!!

فقدت المنطقة الكثير من الكفاءات والزعامات والمواهب. جرفتها السيول. خسرت مشروعها الوطني بالتخوين والاتهام والخطف والتغييب والقتل. نجا قتلة بن يوسف من العقاب وتحصلوا على تغطية دبلوماسية مثلما يحدث في بقية الخوارق على امتداد العالم الذي تربطه المصالح ولاتجمعه المبادئ والمثل.

عاد بن يوسف في صندوق حملته طائرة إلى حيث مستقره في القاهرة. دفن بها إثر جنازة مهيبة يوم الاربعاء 23 اغسطس 1961. كانت العلاقات بين القاهرة وتونس متوترة وتشهد قطيعة مزمنة. وبعد غياب بورقيبة أرسلت رفاته لتدفن بمقبرة الزلاج بتونس العاصمة بجوار بقية القبور.

تسعة وخمسون عاما على تلك الأيام الصيفية اللاهبة والحبل على الجرار في المنطقة وماحولها. خلاف كثير وقليل من الاتفاق. تلك ثقافة الضغينة والاستفراد ببقية القطيع. سيول من الدماء لاتتوقف. فما الذي ينتج عنها سوى المزيد من الخسائر والحزن وضياع الأجيال التي يحتبس في صدورها القهر ولاشيء غيره.. ثم ينفجر في كل الأنحاء!!