Atwasat

جيد ما نحن فيه!

صالح الحاراتي الإثنين 26 أكتوبر 2020, 12:45 مساء
صالح الحاراتي

لاحظت فى الحوارت وعلى وسائل التواصل الاجتماعى، نوعا من الاستهزاء بمصطلح الدولة المدنية، ولم أستغرب ذلك، فالمصطلح وافد جديد على العقل الجمعى فى ليبيا. العقل الذي لم يرَ أي رؤية من ركائز ذلك الشعار متحققا فى الواقع، ولو عرف الناس حقيقة تلك العبارة لاستقبلوها بكل حفاوة وتقدير .

للاسف هناك من يظن أنه من الظرف والدعابة وخفة الدم أن يسخر من مصطلح الدولة المدنية بتحريف القول "دولة متنية"مثلا. وذلك فى رأيي دليل على أن أغلب من يسخر من ذلك المصطلح يجهل معناه وأركانه، وأظنه ينتمى غالبا لأحد فريقين، إما من يبجل الفاشية الدينية، او ممن يحتفى بالدكتاتورية العسكرية .

أما أنت عزيزى المواطن حاذر كي لا يخدعوك بالسخرية والتطاول على ذلك المصطلح، فهو يمثل الأمل والحلم الذي سيخرجنا من عالم التخلف والاستبداد .

أتفهم أن إنساننا عموما وللأسف، يحمل بالفطرة في مكنونه الداخلي إرثاً متراكماً لثقافة شمولية، يمتد عمرها إلى قرون عديدة، لذا فهو يُعتبر حاملاً لعراقيل كثيرة تقف عقبة أمامه لكي يستوعب أبجديات الدولة المدنية الحديثة.. فانتشار سلوك التبعية العمياء للراي الواحد والزعيم الأوحد، ما زالت هي المسيطرة - مع الأسف ـ-على عقول وتصرفات الكثير، إلى حدٍّ نستطيع فيه القول بأنّهم يصعب عليهم معالجة الاختلاف مع الآخر دون اللجوء إلى تسفيه أو تخوين أو تكفير الآخرين، أو النظر إليهم برؤية دونية، تدوس على إرادتهم وتحجب عنهم حقوقهم المشروعة.

أنا لا أستغرب الاستهزاء بمصطلح الدولة المدنية وربما القبول بإعادة استنساخ الاستبداد والدوران فى حلقته البائسة.. فمسألة اقتناع وإيمان الناس بالدولة المدنية، يحتاج إلى جهد كبير للتوعية، ويحتاج لوعائه الزمني وتراكم التجربة والخبرة والمعرفة.

والملاحظ فى مجتمع بسيط أن تكون لكلمة وشعار "نبو شرع الله" ، الذى يرفعه بعض حواة السياسة من الإسلامنجية، وقع مؤثر في النفوس، ولا يحتاج الأمر لجهد كبير ليتم تمريره وقبوله فى مجتمع كمجتمعنا تشكل المنظومة الدينية المساحة الأكبر فى عقله الجمعي، يحدث ذلك القبول رغم أنه شعار فضفاض وملتبس وخادع، لأن الدين ينطلق من المطلق الثابث والسياسة تنطلق من النسبى والمتغير، ومن ناحية أخرى فإن الغوص فى تفاصيل ذلك الشعار يظهر أنه لا اتفاق على تحديد لمعناه، فى برنامج عمل محدد، نظرا لاختلاف آراء الفقهاء فى الكثير من المسائل، ولذلك فإن محتوى شعار "نبو شرع الله" لم يحسم بعد حيث لا زالت الكثير من المسائل محل جدل مثل ما هو الاقتصاد الناجح عوضا عن الاقتصاد الريعى القائم؛ وما هو دور المرأة وهل نحن مؤمنون حقا بأنها نصف المجتمع ودورها ضرورة حياتية.. وما موقف أهل ذلك الشعار من الفنون بمختلف مجالاتها من موسيقى وفنون تشكيلية إلخ، ثم ما شكل نظام الحكم الذى ينضوي تحت ذلك الشعار.. هل هو حكم الفرد متمثلا في "الخلافة"!! وأهل الحل والعقد، هل الشورى ملزمة وما الموقف بالتحديد من تداول السلطة ومن كارثة الحكم الشمولي وما يشيرون إليه بطاعة ولي الأمر!؟
ثم ماذا عن حرية الرأي والتعبير والمعتقد!؟

كل من حاول الاجتهاد والتجديد عانى الكثير من التضييق والاضطهاد، بل والقتل فى حالات كثيرة، ومعظم من أبدوا تفاعلا إيجابيا مع ما أنتجته البشرية في قفزتها الحضارية الحديثة، تعرضوا لذلك، بينما نجا ممن يتحدثون عن التجديد والتطوير من داخل المنظومة الثقافية السائدة، حيث "المصفوفة الدينية".

نعم. دعاة الدولة المدنية الحديثة شعاراتهم كثيرة وعناوينها متشعبة وتعتبر غريبة على أسماع الناس في جغرافيتنا السياسية المطبعة بالاستبداد... حريات وديمقراطية وحقوق إنسان وفصل بين السلطات وتداول سلمي على السلطة ودستور وقانون ومؤسسات…. إلخ؛ وهنا يشعر المواطن بصعوبة استيعاب تلك المواصفات والمصطلحات ويظل فى حيرة من أمره لكي يقرر مصيره واتجاهه، بحيث يكون الأوفق والأفضل برأيي هو رفع شعار.. لا وصاية على العقول ولا إكراه فى الدين ولا فيما سواه.. ذلك قطعا أسهل للفهم .

وأتذكر هنا أنه (لا شيء يأتي دفعة واحدة) ...
يقول المثل الفرنسى :
Petit à petit, l'oiseau fait son nid
( قشة قشة، العصفور يبني عشه)

وأتذكر مدرس اللغة الفرنسية رحمه الله كان يكرر هذا المثل كثيرا، ويؤكد لنا دائما المعنى الذى وراءه.. وهو: أن أي إنجاز لابد له من وعاء زمنى ولابد من تراكم العمل خطوة خطوة وبحضور إرادة الفعل حتى يتم تحققه واقعا". لا زلت أذكر ذلك.. ولا زلت مولعا بالمعنى .

الدولة المدنية الديمقراطية ليست وجبة جاهزة بإمكاننا إنجازها بمجرد التخلص من نظام شمولي دكتاتوري، وإنما تتحقق بالممارسة والتصويب والتحسين المستمر وتراكم التجربة حتى تترسخ فى المجتمع الثقافة الديمقراطية..
أما فوضى ما بعد الثورات التي نعيشها فهي أمر معروف ولا علاقة له بالديمقراطية، ولنا العبرة فى كل التاريخ البشري.

والخلاصة وبرغم الآلام .. أرى أن كل ما مر بنا جيد.. نعم جيد ما نحن فيه، لكي تأتينا لحظة المكاشفة والاعتراف بحجم الصديد الكامن في الأعماق والمعجون بالجهل.. ويتبين لنا حجم الكذب والتجهيل الذى مورس علينا وعلى أسلافنا منذ قرون حتى نشأنا وتبرمجت عقولنا على موروث ثقافي محوره وجوهره العنف، والغزو، والقتل والغنيمة وإهدار الكرامة الإنسانية.

نعم جيد ما نحن فيه، لنكشف الستار عن حقيقتنا لكي نبدأ رحلة التغيير.