Atwasat

«كورونا» تؤجج غضب ماركس

سالم العوكلي الثلاثاء 13 أكتوبر 2020, 10:32 صباحا
سالم العوكلي

بعد عقود من هيمنتها على مصير العالم، تطرح نظرية الرأسمالية، مع كل أزمة مالية، سؤالها الملح: أيهما أهم: الإنسان أم المال؟ أو بصياغة أخرى: الكائن البشري أم حسابه المصرفي؟ وطيلة مدى تمكنها من حياة البشر اليومية الممتدة من «وول ستريت» إلى أقصى عشوائية في أطراف مدن العالم الثالث الفقيرة، حاولت أدبيات الرأسمالية أن تروض قلق هذا السؤال بسرديات مختلفة عن قيمة الإنسان حين يتحول إلى رأسمال في حد ذاته، وحاولت أن تزين هذا الجشع الوحشي بمقولات عن ارتباط الأعمال الصائبة بمدى تعزيزها لسعادة الإنسان، أو فتنته بالحريات الممنوحة له، رغم أنه لا يجد متسعا من الوقت لممارستها في ظل كدحه اليومي من أجل تسديد فواتير آخر الشهر، التي غالبا ما تأتي على كل دخله أو تزيد. مع الوقت تحولت الرأسمالية إلى عقيدة، والمال إلى آلهة مجنونة، وأصبح كوجيتو الوجود الإنساني: أنا أكدح.. أستهلك إذا أنا موجود.
الآن جائحة «كورونا» دخلت من باب غير متوقع لتطرح السؤال السابق بقوة وإلحاح، وتحت ضغط هائل لا يحتمل المواربة في الإجابة ولا المراوغة ولا التأتأة، ولا حتى إتاحة وقت للتفكير.
في البداية حاول ساسة الدول الكبرى، بعد تفشي «كورونا» فيها، أن يراوغوا السؤال، أو يدعوا أن حياة الإنسان أهم، عبر إجراءات إغلاق شاملة في أهم الدول الرأسمالية، لكن سخط الآلهة على هذه الإجراءات لم يتأخر بعدما أصبحت الاقتصادات الكبرى تترهل، ورؤوس الأموال تنكمش والأسواق تركد، ومن جديد اخترعت منحنى لهذا الوباء الذي سيصل الذروة ثم ينحسر، وأطلقت العنان للناس كي يعودوا إلى أعمالهم وسط احترازات ما زالت الآراء العلمية تتضارب حيال فاعليتها، وعادت من جديد موجة ثانية ضارية من الوباء، حيث فكرة الذروة كانت مجرد اجتهاد سياسي لم تؤكده مراكز بحوث الفيروسات والأوبئة، لكن الرأسمالية التي يعتمد تاريخها الجمالي على رسم المنحنيات اخترعت هذا المنحنى الوهمي، وكشرت عن حقيقتها حين فضلت في الموجة الثانية المال على الإنسان، وعافية الاقتصاد على صحة البشر.
حولت الرأسمالية الاقتصاد العالمي إلى جسد حي متراص من الممكن أن يصيب الفيروس جهازه التنفسي ويجعله يختنق، وأصبح البشر خلايا في هذا الجسد الكوني، أو قطع غيار في آلة الرأسمالية الضخمة، لدرجة أنهم بدؤوا يتأثرون بإجراءات الإغلاق ويخرجون في تظاهرات ضدها، رغم أنها مقترحة لحماية حيواتهم، مستعدين للموت في طقوس جماعية وتقديم أنفسهم قرابين من أجل إرضاء الآلهة، وخير ممثل لهذه السلطة العليا الرئيس الملياردير ترامب الذي أنكر وجود الفيروس من أساسه، ثم سخر منه، ثم حوله إلى ورقة سياسية في صراعه مع الصين، ثم إلى أداة دعائية هوليوودية لحملته الانتخابية القادمة.
والسؤال الافتراضي: كيف كان سيكون تأثير هذه الجائحة في العالم لو أن النظام الاشتراكي هو الذي انتصر وتحكم في الاقتصاد؟ ومع الأسئلة المتعلقة بـ«كورونا» تصعب الإجابة، ما بالك بالأسئلة الافتراضية، ولكن على الأقل يعيدنا هذا السؤال إلى تبصرات ماركس المبكرة حيال المصير البشري، وهي التنظيرات التي كثيرا ما يسلط عليها الضوء في كل أزمة عالمية تقف خلفها الرأسمالية. ماركس الذي بدأت حكايته مع نذور الجشع الإنساني من هنا، كما يرد في كتاب «تاريخ موجز للفلسفة» لمؤلفه «نايغل وربروتن» ترجمة نجيب الحصادي: «كان هناك في القرن التاسع عشرة آلاف من مصانع القطن في شمال إنجلترا. وكان الدخان الأسود ينبعث من مداخنها الطويلة، ملوثا الشوارع ومغطيا كل شيء بالسناج. ولكي تظل الآلات في حالة دوران دائم كان هناك في تلك المصانع رجال ونساء وأطفال يعملون ساعات طويلة، تصل في الغالب إلى 14 ساعة يوميا. لم يكونوا عبيدا، لكن أجورهم كانت متدنية، والظروف صعبة وغالبا ما تكون خطرة. إذا فقدوا تركيزهم قد تتورط أطرافهم في الآلة وقد تبتر وقد يتعرضون للموت. غير أنه لم يكن لديهم سوى القليل ليختاروا بينه: إذا لم يعملوا سوف يتضورون جوعا. إذا تركوا هذا العمل، قد لا يجدون عملا آخر. ولم يكن الذين يعملون في هذه الظروف يعمرون طويلا، ولم تكن هناك سوى لحظات قليلة في حيواتهم يمكن وصفها بأنها ملك أيديهم... وإذا قل الطلب على ما يصنعون، أيا كان هذا الذي يصنعون، فإنهم يطردون من العمل، وإذا لم يستطيعوا الحصول على عمل آخر، فإنهم يتركون للموت. وحين بدأ الفيلسوف الألماني كارل ماركس (Karl Marx) (1818-83) في التأليف في ثلاثينات القرن التاسع عشر، كانت هذه هي الظروف الكئيبة التي نجمت عن (الثورة الصناعية) في إنجلترا، وفي كل أنحاء أوروبا قد أغضبته تماما».
تمخض عن هذا الغضب نداؤه الشهير «يا عمال العالم اتحدوا» ومن ثم تحولت أطروحاته عن مستقبل الطبقة الكادحة إلى ثورات عنيفة في أصقاع كثيرة من العالم، حيث لم يستبعد العنف من أجل الوصول إلى هذه اليوتوبيا التي كثيرا ما تلمع الآن في رؤوس ضحايا الرأسمالية وقت الأزمات. السؤال السابق عن اختلاف تداعيات هذه الجائحة لو أن النظام الاقتصادي العالمي اشتراكي سؤال معقد، من الممكن أن يناقشه المختصون في علم الاقتصاد، لكن ما أعرفه أن أساس هذا النظام أن تكون الدولة ضامنة لدخول ومتطلبات مواطنيها الحيوية، ولكن هل يمكن للدولة الضامنة أو الوصية على مواطنيها أن تكون ديمقراطية؟ سؤال آخر أكثر تعقيدا، غير أن لب النظرية الاشتراكية الجديدة هو المواءمة بين مسؤولية الدولة الاقتصادية وتحررها السياسي، قد تبدو معادلة صعبة، لكن الاشتراكية بهذه الصياغة الجديدة ظلت تعكر صفو الرأسمالية المتوحشة، كبلسم محتمل لكل ما يعتري العالم من قهر وظلم، ويستخدمها الآن ترامب «المكارثي» كبعبع ضد خصومه الديمقراطيين الذين يعتبرهم يسارا متطرفا.
حاولت الرأسمالية في مراحل تبرجها الإنساني أن ترقى بوضع العمال إلى نوع من الرفاه والحقوق المضمونة، وحققت تقدما ملحوظا في تحسين الصورة، لكن ارتباط الإنسان العضوي بالآلة ما زال مستمرا، وعلاقة العباد بالآلهة ما زالت في ذروة الورع، وزحف الذكاء الصناعي على مصادر رزق البشر جار على قدم وساق. من الممكن أن نخدع برفاه العامل أو الموظف في هذه الآلة وملابسه الأنيقة ومنزله العصري وسيارته الفخمة، ولكن كل موظف معرض في لحظة لأن يجد نفسه في الشارع بمجرد أن تستغني عنه الآلة أو تمر بأزمة، ولأن كل تلك المظاهر الخلابة نتيجة رهون مصرفية سيجد نفسه في يوم وليلة مشردا في الشارع حين يستعيد المصرف كل مظاهر الرفاه المزيف.
في قلب هذا الكابوس حاول كارل ماركس أن يسرب حدسه المتفائل حين رأى «أن الرأسمالية سوف تدمر نفسها في النهاية». وجائحة «كورونا» التي تعيد تشريح جسد العالم، تؤجج الآن غضب ماركس، حين يذهب قادة ما سمي العالم الجديد إلى أن الاقتصاد أهم من البشر، وإلى إستراتيجية مناعة القطيع التي تعود إلى قانون الانتخاب الطبيعي. نجا ترامب حتى الآن من «كورونا» التي اعتبرها «أعطية من الله»، واستعرض طقوس نجاته، كبطل فلم هوليوودي رخيص، لأن ترسانة الرأسمالية وضعت قرب سريره في المستشفى كل الإمكانات الهائلة التي من المستحيل أن يحظى بها مئات الملايين من المصابين، من أولئك «المربوطين في ترس الآلة الضخمة» الذين يطلب منهم ترامب أن لا يهتموا بـ«كوفيد 19»، ويخرجوا إلى أعمالهم دون كمامات كي تستمر أسهم شركات طبقته في الارتفاع.