Atwasat

تداعيات القرية الخضراء «1-2»

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 سبتمبر 2020, 08:25 صباحا
محمد عقيلة العمامي

خلال شهر يوليو 1970 أمضيت رفقة الأستاذ أحمد الماقني ليالي في حي اسمه «Green Village» بمدينة نيويورك. كانت دوريات الشرطة تتجنب دخوله من بعد غروب الشمس؛ هكذا أخبرتنا دورية بمجرد أن غادرناه ذات ليلة. كنا ضمن وفد يمثل ليبيا بمؤتمر الشباب العالمي، الذي عقد بإشراف الأمم المتحدة في مبناها الفخم وحضره شباب من دول العالم كافة.

كانت ظاهرة «الهيبز» قد بدأت تتشكل كسلوك شبابي رافض للحياة التقليدية، يعيش ذكوره وإناثه معا وغالبا بعلاقات لا تدوم طويلا! وتجدهم مأخوذين بالفن والموسيقى والأدب والشعر والروحانيات، سبق أن اصطلح في باريس على تسمية أمثالهم «البوهيميين». وسريعا ما تأسس من بينهم تشكيلات وأسماء لعل أبرزها «أبناء الله - Children Of God». وأذكر أنه بعد عودتي إلى بنغازي كنت أحدث رفاقي في الجامعة عن ظاهرة أبناء الله، فعقب صديق ساخرا: «أنت تعني أبناء وبنات الله، يعني مثل (بنات باب الله!)» وكانت هذه التسمية حينها تعني، في بنغازي، شيئا مختلفا للغاية. وإن كان يصعب كثيرا حينها قبول ذلك الفكر الجديد، الذي نستطيع القول إنه من معاول الإساءة إلى المؤسسة الزوجية التقليدية!

ولقد كتبت عن رحلتي تلك عددا من مقالات نشرت حينها بمجلة «جيل ورسالة» التي كانت الحركة الكشفية في بنغازي قد أسستها، لتصبح منبرا ثقافيا.
كانت «القرية الخضراء» تقع وسط حديقة في نيويورك، وما إن يقبل الليل، حتى تصبح ملاذا لأولئك الذين اتخذوا أسلوبا لحياة غير مألوفة يدعون إلى التفكير الحر المطلق، فاق حينها أسلوب البوهيميين؛ «Bohemian» المأخوذين بالفكر والأدب والفن غير المقيد بأنماط محددة.

ولقد قرأت، فيما بعد، معلومة تقول: إن لويس مونوز مارين حكم بورتوريكو لمدة 16 سنة «من 1949 إلى 1965». ومن بعد أن سلم السلطة إلى من خلفه، عهد إلى مكتب محاسب قانوني أن يفحص أمواله وأملاكه كافة، وكانت النتيجة أن مبلغ 8000 دولار هو فقط ما زاد عما كان يملكه منذ سنة 1949، وكان أثناء حكمه يتقاضى مرتبا قدره 10600 دولار «سنويا»، والعجيب أنه وافق على قانون يرفع مرتب خلفه إلى 25 ألف دولار، رافضا في الوقت نفسه تطبيق هذه الزيادة على راتبه. وانتخب بعد أن ترك كرسي الرئاسة عضوا في مجلس الشيوخ بمرتب قدره 500 دولار فقط.

بحثي عن سيرة هذا النموذج النادر من الرجال، بين لي أن والده كان شاعرا وناشرا وأيضا سياسيا وتولى وزارة الدولة ثم رئيسا للوزراء، وترك ابنه لويس مونوز مارين وعمره 18 عاما، الذي بان اهتمامه بالشعر والأدب، وفضل الحياة البوهيمية، في الحي الذي أشرت إليه، والذي ترفض دوريات بوليس نيويورك التجول فيه ما إن يحل الظلام.

خلال تلك الفترة نشر كتابا سماه بقع، أو «لطخ» أو «بصمات» وهو عبارة عن مجموعة قصصية ومسرحية من فصل واحد. ولما التقى رئيس الحزب الاشتراكي، سانتياغو إغليسياس بانتين، ارتبطا بصداقة وبدأت مسيرته السياسية معه وأوصلته إلى أن يكون حاكما على البلاد، أقول لكم هذه المعلومة لنعلم أن حياة الشباب في تلك القرية، لم تكن مجرد مجون، أو «صياعة»، ولكنها مسألة بحث عن الذات، ولقد تزامن ذلك مع ظهور عدد من الفلسفات لعل الوجودية أبرزها.

مثل هذه المواضيع الحياتية الاجتماعية والإنسانية هي التي تستهويني، وكانت معظم كتاباتي في هذا السياق: الاجتماعي، التاريخي، الإنساني، ولم أقترب مطلقا من المواضيع السياسية، فمنذ أن انطلقت من «قهوة سي عقيلة»، وعرفت أن هناك ناسا وشوارع وأندية، ومدنا مضيئة لا تنام لا الليل ولا النهار، وأنا الذي اعتقدت أن ما رأيته مبكرا في ملاهي بنغازي الليلية، هو الليل بكل معانيه التي قرأتها في الروايات، ولكنني ذهلت عندما اكتشفت أن بنغازي حينها لا علاقة لها بما شاهدت في مواخير العالم.

ومنذ أن زهوت ببدلة الجامعة، في رحلتي اليومية من شارع نبوس، عبر شارع عمرو بن العاص، إلى الجامعة الليبية فيما تكون العودة أحيانا من شارع عمر المختار، عبر سوق الحوت، وميدان البلدية، عبر سوق الظلام رفقة الزملاء الذين جاؤوا من طرابلس واكتروا بيتا في شارع المسطاري -قريبا من بيت دودا اليهودية!- أصبح مكان سهراتنا البريئة أو ليست البريئة جدا وسميناه «النادي الدولي» لم يغب عنه لا أساتذتنا الطيبون، ولا أولئك الذين ليسوا طيبين جدا، ومنه أواصل سيري نحو شارع نبوس، محل إقامتي وأيضا نادي «قهوة سي عقيلة» الذي التقيت وتعرفت فيه على كل ما يخطر ولا يخطر على بالك من نماذج، منهم من ما زالوا رفاقا وأصدقاء وأصهارا.

حياتي كانت ثرية جدا، لقهوجي، ونجار، وخضار، وبقال، ومدرس وموظف وتاجر وحوات، ورجل أعمال، وسهرات ومشاريع، وفوق ذلك صداقة، ورفقة لعدد كبير، منهم من ما زالوا أصدقائي، أحدهم طار منذ يومين، من طرابلس إلى إسطنبول ثم القاهرة، ليذهب إلى دبي، كل ذلك من أجل حمد حقيقي منه على سلامة قدمي! منهم من أخذته السياسة، فعرف كيف يتخطى مطباتها، ومنهم من فقد شبابه في السجون وبعضهم طحنته الغربة، ومنهم من رأيته صعد شهيدا من ميدان الكنيسة، ومنهم من شرده الشعر والعوز، ومنهم من وظفه واستثمره.

حياة رائعة، صاخبة، أعترف أنني كتبت عنها الكثير في كتبي التي بلغت 20 كتابا ما بين قصة ورواية ودراسة، وبحر وأسماك وطهي «الحرايمي»! كتبت عن كل شيء إلا السياسة، ابتعدت عنها تماما في العهدين الملكي والجماهيري؛ والمتابع لكتاباتي يعرف أنني وضحت لماذا ابتعدت عنها.

لنحو سبعين عاما من عمري لم أكتب جملة سياسية واحدة، ولكن بعد فبراير 2011 كتبت مجموعة مقالات لا ترتقي إلى سياسة حقيقية بقدر ما هي حالة انفعالية. واستمرت كتاباتي بين حين وآخر، وإن كانت نقدية أكثر منها سياسية أو مسيسة.

ولكن بعد أن بلغت من العمر 75 عاما أصبحت محللا سياسيا! صرت نبيا! أستهل موضوعي، بكلمة واحدة: «أعتقد» أو جملة قصيرة: «في تقديري..» ثم أنطلق أتنبأ بما سيحدث! ووجدت نفسي في مواجهة أضواء وسيدات فاتنات يطلبن رأيي وتحليلي لما حدث، وأيضا لما لم يحدث؟ فصرت في مصاف أولئك الذين مرفوع عنهم الحجاب وأضع رجلا فوق أخرى وأدلو بدلوي، الذي يخيب أحيانا ويصيب أحيانا أخرى!
كيف حدث ذلك؟ سأجيبكم، في الأسبوع القادم بمتمم لهذا المقال.