Atwasat

التكلفة السياسية (1 - 2)

رافد علي الأربعاء 09 سبتمبر 2020, 11:58 صباحا
رافد علي

لازالت حركة "الأخوان المسلمون" تتحمل الكلفة السياسية المضنية لحالة الفشل في الربيعيات، فالحركة رغم كل المهادنات السياسية التي خلقتها لنفسها مع الأنظمة الحاكمة في مصر والأردن والمغرب قبل بدايات العقد الثاني من الألفية الثالثة كانت دائما تخشي خوض غمار الصدام الدامي أو حتي قيادة المجتمع بتلك البلدان لحالة عصيان مدني على أقل تقدير رغم حالة التوترات بينها وبين السلطة. الأخوان بالمنطقة العربية مع الربيعيات حاولت خوض غمار الصدام الدموي ضد مجتمعها في ليبيا بعد عملية فجر ليبيا وهي منتعشة بروح الربيع الذي سقط فيه ثلاثة حكام لدول متجاورة عاشت تدابير أمنية شاملة وخاصة ضد الإسلام السياسي بشكل عام باستثناء الجزائر التي قضت عشرية تجلى فيها العنف والعنف المضاد حتي جاء بوتفليقة ومشروع الوئام الوطني وقرارات العفو على الإسلاميين على ضوئه.

الكلفة السياسية التي يتحملها الأخوان لا تقف عند حد أن زعماءها أضحوا شخصيات جدلية في الشارع، وأن الإطار الفكري للحركة عموما أمسى ينادي بضرورة إجراء تحديثات وتعديلات لا في النهج العام فقط، ولكن في الثوابت الفكرية، وأن يرفع التيار المحافظ يده عن الإطار التنظيمي للحركة كونه صمام أمان لكيانها وهويتها التقليدية الرافضة للتحديث. فمن حيث النهج العام لم تتردد حركة الأخوان بعد اكتساحها انتخابات الربيع المصري، لم تتردد في ممارسة التغول تجاه التنظيمات السياسية بالبلاد مناقضة شعارها بتلك المرحلة "مشاركة لا مغالبة" من خلال محاولة حزب الحرية والعدالة الاكتفاء برجالات الحزب في المراكز القيادية والحساسة قفزاً على مبادئ الخبرة والكفاءة في سعيهم لبسط نفودهم على أجهزة الدولة كما حصل مع سلك القضاء بمصر مما أدى لرفع حالة التصعيد السياسي بين السلطتين التنفيذية والقضائية بالبلاد وأمام وسائل الإعلام التي كانت ترفع صوتها الناقد لما يجري من تغول مما جعل الإخوان يعتبرون أن أجهزة الإعلام المصرية حينها جندي يقف في خندق معادٍ لمحاولة "أسلمة الدولة والمجتمع" في عموم الحال.

ان الدفع بنهج أسلمة الدولة والمجتمع من قبل الحركات الإسلامية بشكل عام لا شك أنه ارتبط بعدم استيعاب الإسلام السياسي عموما عربيا أو إسلامياً بانهم يأتون للحكم من خارج مؤسسات الدولة بالمعنى العميق لمصطلح دولة، إذ يتجلى ذلك في أفغانستان طالبان أو في مصر محمد مرسي وفي تونس الذي أقفل المطاعم والمقاهي برمضان في سابقة لم يعهدها الناس هناك، أو في ليبيا حيث سارع التيار الإسلامي المحافظ برفع القيود القانونية على حالة تعدد الزوجات كمكافأة سياسية لأنصاره في خطاب رسمي بوسط العاصمة الليبية. آردوغان بتركيا بكل إرثه الديني كإسلامي لم يرفع شعار الأسلمة بشكل صريح رغم بعده الإخواني كسياسي، بل كانت تدابيره تسير للسطوة السياسية لتياره بشكل سريع مما استبعده عن نطاق الانتقاد له بهذا الخصوص خارج تركيا، وهذا يشير إلى أن الأسلمة - كشعار- عنده تسير في حالة تروٍ حسب وجهة نظري الشخصية.
قد تكون الحالة التي دفعت الإخوان لتبني المهادنة السياسية في مصر مع نظام حسني مبارك من خلال السماح لهم بلعب دور المستقل وممارسة التحالف حينها مع الوفد في صفقة سياسية شهيرة تاريخياً ترجع هذه الخطوة لغياب داعم سياسي طامح للتوسع والانتشار بالمنطقة كما حصل في الربيعيات العربية ووجود آردوغان بسيطرته على تركيا كقوة إقليمية بكل قبضته الحديدية مدعوماً بمجلس الأمن الوطني ببلاده الذي ينظر للمنطقة العربية ليست بمحض نستالجيا السطوة والجاه والسلطان، بل من منطلق أرض بكر واستراتيجيات متنوعة تعزز مكانة أنقرة مع غرمائها بالمنطقة كمصر وإيران وإسرائيل وجارته اليونان عبر جسر قبرص كحلقة وصل ثلاثية الأبعاد في الثقافة والتاريخ وحقول الغاز.

من الناحية التنظيمية يركز العديد من المهتمين بحركة الإخوان والإسلام السياسي كما عند أحمد تمام، صاحب دراسة تسلف الإخوان، أو عند جورج فهمي وبحثه الصراع على قيادة الإخوان المنشور عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط، وفي كتاب المسبار لمؤلفه أحمد بان، جميعهم يركز على حالة الصراع الداخلي لحركة الإخوان بين أقطاب التيار المحافظ والجيل الجديد من الشباب. فشباب الإخوان يبقى خارج دائرة صنع القرار بما يعيق خلق حيز حقيقي لتحقيق التغير المطلوب تجاوباً مع المرحلة التاريخية المعاصرة. تمّام في كتابه الإخوان المسلمون سنوات قبل الثورة عن دار الشروق يذكر أن التيار القديم يبقى هو الضابط الأساس في رسم الصورة الأساسية لحركة الإخوان في مصر رغم المساحة التي قد تمنح لتيار جيل الشباب فيها باعتبار أن التنظيم الداخلي للحركة هو ركيزة استقرار الإخوان المسلمين داخلياً، ويرى جورج في موضوع التنظيم أن سيطرة الصف الأول من قادة الحركة صمام رئيسي على الحيوية الداخلية للحركة وركيزة لوحدة صفها، في حين أن كتاب تقييم حركة الإخوان في مصر الصادر عن مركز المسبار يونيو العام الماضي، ينتقد المؤلف فيه تنظيم الإخوان بأنه ظل على مدى عقود حكم مبارك تنظيماً عاجزاً عن هضم حالة التنوع بين صفوفه، وتناسى التعددية الثقافية للمجتمع المصري بسبب ما أسماه ارتكاز حركة الإخوان أساساً على " تركيبتها القطبية".
2 / 2
أما عن الإطار الفكري والحاجة الملحة فيه لحركة الإخوان فتجدر الإشارة إلى أن الحركة قد شهدت تحديثات متنوعة على مدار العقود السابقة وبرزت علي السطح العام "محاولات" من بعض الأسماء كما هو الحال عند جمال البنا، الشقيق الأصغر للشيخ المؤسس للحركة، وصاحب كتاب مسؤلية فشل الدولة الإسلامية عن دار الفكر الاسلامي، أو كما فعل الغنوشي بتونس عبر كتاباته المتعددة الفكرية بعقد الثمانينيات من القرن الماضي، والتي لازالت محل أخذ ورد في تونس ذاتها وفق تجاذبات السياسة والميديا في ظل سطوة النهضة على ترويكا الحكم. كما أن الإخوان بالمملكة المغربية قد أصدروا فتاوي فقهية بخصوص الديمقراطية والحياة السياسية في حين ظل أساس الحركة في مصر في حالة عجز عن التجديد حتي مع ظهوره في صورة حزب سياسي مرخص له وهو الحرية والعدالة كما يرى تمّام، إذ ظل الحزب رهين توجيهات المرشد الذي لم يعلن عن أي تحديث أو مراجعات فكرية للحركة بل ظل الهم الأساس عند الإخوان في مصر هو الاستعجال على حوز النفوذ كاملا على أركان الدولة. وفي هذا الصدد يتفق الباحثان السياسيان الألماني لوتس روغلير والأردني حسن ابوالهنية، المدونة آراؤهما على صفحة القناة الألمانية الدولية DW تحت عنوان الإخوان المسلمون بين الجمود الفكري والطموح السياسي.

حزب النهضة في تونس رغم سابقته في الإعلان عن "الفصل بين الدعوي والسياسي" ضمن فعاليات المؤتمر العاشر لحركة النهضة عام 2016 تبقى التجاذبات حول هذا الطرح الإسلامي في تونس مثار تحليل بسبب انعدام وضوح لهذا الفاصل بين "الدعوي والسياسي". فالكثير من المهتمين بالحركة الإسلامية اعتبروها حينها خطوة نحو عهد جديد باعتبار الغنوشي "من التيار الديني المتحرر وشخصية دراماتيكية يتجاوب مع متطلبات المرحلة في تونس" وحزبه يقود محاصصة سياسية تسعى للخروج بالبلاد من المأزق الذي تعيشه "ثورة الياسمين". علي الطرف الآخر، يرى البعض، ومنهم الكاتب ياسين نبيل، أن شعار النهضة في الفصل بين الدعوي والسياسي ما هي إلا شكليات صرفة تقصد منح الشق الدعوي في "مسيرة" أسلمة المجتمع في تونس دوراً تعبوياً أكبر بهدف سحب البساط بحيوية أكثر من تحت المنظمات الجهادية المتطرفة كتنظيم عقبة بن نافع. فليس هناك فك ارتباط فعلي لحزب النهضة مع كلِّ ما هو ديني وسياسي، باعتبار أن حزب النهضة لازال متمسكا بالوثيقة المرجعية للحركة ”الرؤية الفكرية والأصولية لحركة النهضة“ التي أقرها المؤتمر الرابع للنهضة المنعقد في ديسمبر 1986، والتي ورد فيها ”انطلاقا من مبدأ التعامل الصادق والمسؤول مع ديننا الحنيف، واعتمادا على مبدأ الشمول في فهم الإسلام بشكل لا يحصره في مجال العقائد والشعائر بل يتعداه ليشمل إلى جانب ذلك الحيز الاجتماعي والاقتصادي" فمبدأ الشمول هذا لم تعلن النهضة بعد على انها تخلت عنه بشكل صريح رغم تصريحات الغنوشي لصحيفة الشروق التونسية في مايو 2016 التي اعتبر فيها "ان شمولية التنظيم لا تعني شمولية الفكر"، وهذا يجعل التنظيم له الأولوية وأن الفكر حالة تكتيكية كَما تعودنا عليه في سياسة منطقتنا المأزومة باستمرار.

إن المحنة التي تمر بها المنطقة بشكل بارز ومقلق منذ مطلع الربيعيات أضحت تلح بشكل عاجل علي الجميع- إسلامي أو عداه- من نُخب في الجلوس والتفكير في جدية لتحقيق المراجعات الفكرية المطلوبة في ظل حالة الفوضي العارمة والفساد المستشري والكساد الضارب لاقتصاديات متواضعة وأمست مرتبكة اليوم. فالمرحلة الحالية على أعتاب عشريتها الأولى التي يسود فيها الشعور بالحنين للماضي، أكثر من التطلع للمستقبل بسبب الانسداد في الأفق وخيبة أمل لشعوب المنطقة في ظل جمود سياسي يترسخ أمام كل الأزمات. إن التكلفة السياسية سترتفع وستزداد على كاهل الجميع لأننا في ظل الجمود والميكافيليات المؤدلجة، نهدر الوقت والأجيال والفرص التاريخية لدخول حيز العصر والتاريخ بشجاعة وآفاق حية وحب لأوطاننا.