Atwasat

اعتقال لدورة تسمين

محمد عقيلة العمامي الإثنين 07 سبتمبر 2020, 07:08 مساء
محمد عقيلة العمامي

" لمن بمقدوري أن أتحدث اليوم؟
لقد هُلك الإنسان المسالم الرقيق
واستطاع جبروت الإنسان العنيف أن يصل إلى كل شخص
والظلم الذي ابتليت به الأرض، ليس له نهاية
لم يعد هناك أناس عادلون
إن الأرض تستسلم للمجرمين..
إن الأرض تستسلم للمجرمين".

أنا على يقين أن صدمتكم ستصل حد الدهشة، عندما تعلمون أن هذه الأبيات كتبها شاعر، فكر في الانتحار، منذ 4000 سنة! وهذا موثق في تاريخ المملكة الوسطى في العصر الفرعوني! وذلك يدل باختصار شديد، على أن الإنسان يحنُ منذ بداية الخلق لعصر أقدم، يرى أنه أكثر رقة وعدالة، وذلك يعني: "أن استسلام الأرض للمجرمين " ليس أمرا جديدا.

دعوني فقط، أحدثكم عن حقيقة عشتها، ومازال كثيرون ممن عاصروها معي يتذكرونها لطرافتها أولا، وثانيا كيف تحولت هذه الطرفة في وقت قصير إلى شراسة لم نعهدها في العصر الملكي، فتسببت في سقوطه، وانتهي الأمر بالناس إلى "حنينا إلى مرات بوهم لوله!":

"فما حدث مطلع سنة 1973، تحديدا يوم 21 فبراير علامة مميزة لتاريخ حكايتي هذه، لأنه يوم يذكره العالم كله فما بالك بالليبيين، لأن إسرائيل أسقطت رحلة طائرة الخطوط الليبية الجوية المدنية رقم 114 فوق تراب سيناء فقضت على 108 راكبا ونجا خمسة ركاب من بينهم مساعد الطيار".

حكايتي ابتدأت تقريبا في الأسبوع الأول من شهر فبراير 1973، كنت قد تركت عملي بكلية الطب وسافرت إلى القاهرة، وعدت منها إلى مطار بنينا. وتوالى استلام الركاب لجوازاتهم وخروجهم، إلى أن جاءني شاب يحمل جوازي، وأيضا حقيبتي، وسألني أن "اتفضل معه!". وسألته إلى أين؟ فأخبرني أنني مطلوب لجهة أمنية! لم أناقشه، فمثل هذا الحال وقتها لم يتحول من قلق إلى رعب! خصوصا أن علاقتي حينها كانت جيدة برئيس البحث الجنائي، التي كانت حينها، الجهة الوحيدة التي تتولى القبض المباشر على المواطن والتحفظ وعليه.

في عربة الشاب تعارفنا، وسألته بود إلى أين نحن ذاهبون؟ فأخبرني، فسألته هل هي التي يترأسها سعد بن عمران؟ فأجابني: "نعم وهو الذي بعثني إليك هو في انتظارك". عندها انقشع القلق! فالمرحوم أحد أقرب أصدقائي، ومعرفتنا قديمة جدا، ووثيقة منذ أن كان مسئولا عن "الجاسوسية" في العهد الملكي، وكانت شلتنا تلتقي به دائما في الأماسي في بهو هوتيل "بنغازي بلاس" حيث يكثر الأجانب.

ومن بعد مداعبات، وسخرية ووعيد أخبرني أن برقية وصلت من يومين بها مجموعة من الشباب وطلبوا منه القبض والتحفظ عليهم، ثم أعطاني البرقية وسألني عن علاقتي بهم. قرأت الأسماء وعرفتهم جميعا، وأخبرته أنهم زملائي في الجامعة، ولكنهم جميعا من كلية التجارة وليسوا من كليتي، فأنا من طلبة كلية الآداب. أخبرته أيضا أن علاقتي بهم جيدة.

سألني مباشرة: "هل علاقتكم شكل من أشكال التنظيم؟" فسخرت منه وأذكر أنني قلت له: "والله يا سعد، يا خويا كنت أعتقد أن رفاقنا أجادوا عندما لقبوك بـ (كوجاك) المحقق البوليسي الشهير؟ لكنك طلعت أي كلام، لا (كوجاك) ولا حتى (ويشي)؟ يعني رفقة كم سنة، ولم تعرفني؟ أنت عارف أنه لا علاقة لي بالسياسة، فمن له "بنيات" لهن أب مثل "سي عقيلة" لا يفكر في أية مغامرة. سي عقيلة، وأنت تعرف ذلك جيدا، لا حكاية له معي لا تنتهي بالتنبيه أنه ليس "للبنيات" أحد إلاّ الله وأنا!.. وبالتالي الابتعاد عن مناكفة الحكومة فرض! وليس سنة".

وبالفعل هكذا أسست حياتي. وتحدثنا طويلا، ثم أخذني في عربته بحقيبتي وقال لي أمام منزلي:"حسنا! غدا صباحا سأمر عليك وآخذك إلى رفاقك في مركز الحدائق.." أجبته: "لا .. لا! انتظرني، أطمئنهم، ثم تأخذني إلى جماعتي المقبوض عليهم، وسنعرف منهم سبب هذا القبض" وهذا ما حدث.
كان سبب القبض علينا أننا لم نعمل في الجهة التي حددتها الدولة، علما بأن جميعهم كانوا يعملون معها، ولكن ليس في المكان الذي صدر التعيين إليه؛ وأن الأمر كان مباشرة من عبدالسلام جلود رئيس الوزراء آنذاك، وطبق الأمر من دون أية إجراءات قانونية وتركونا موقوفين في مركز شرطة الفويهات لحوالي شهر كامل!.

والحقيقة لم يكن الحال سجنا بالمعني الحقيقي للسجن، مثلما أصبح من بعد خطاب زوارة! ولكنه كان سجنا على كل حال. ولم يغادر أحد منا تلك الغرفة رسميا، إلاّ بعد توقيع على إقرار بالعمل في المكان الذي حددته الدولة، وكنت أول الموقعين وسافرت في اليوم نفسه إلى صادق النيهوم في طرابلس، الذى أخذني اليوم التالي إلى مكتب جلود مباشرة، وعدت بقرار مدرس في بنغازي بدلا من موظف في مصلحة العمل بطرابلس.

صحيح أننا افتعلنا، بمعرفة سعد بن عمران، إضرابا عن الطعام، بسبب اقتصار أكلنا على السردين والجبنة الحمراء، فوصلنا إلى ولائم باذخة لم يسبق لها مثيل في ذلك الوقت، إذ أصبحنا نأكل من مطعم شهرزاد، أشهر مطاعم بنغازي. وأن مساهمة شركة الاسمنت الليبية وشركة ليبيا للتأمين وصلت حد إرسال وجبات تتكون من خرفان محشية! فأصبحنا كأننا في دورة تسمين! وكثيرا ما بعث لي سعد سيارة لتأخذني للتحقيق! ولكنها، في الواقع، إلى لقاءات تستحق بالفعل التحقيق، بل بلغ الأمر أنني طلبت حضور مباراة كرة قدم بين الأهلي والنصر، وكانت حاسمة وحضرتها، ولم يغب عني الأصدقاء، إذ أصبح لهم مكان يسهرون فيه تحت أعين الحكومة! لم يغب عني لا خليفة الفاخري، ولا مصطفى الكرامي، ولا عبد المجيد الدرسي، ولاعبدالله السوسي.. ولكن قيد الحرية يظل سجنا.

المفارقة أن ثلاثة من زملائي المسجونين كانوا من رفاق قهوة سي عقيلة، ورأيتهم مع المنطلقين في شوارع بنغازي يهتفون للحرية والوحدة العربية وبسقوط الملكية التي لم تبخل عليهم بشيء! ولم نسمع بالفساد الحقيقي إلاّ بعد سقوطها. ولابد أن نشير إلى أن ثورة سبتمبر في بدايتها ابتعدت عن العنف وفتحت الفرص أمام الناس، ولكن سريعا ما اقتصر عمن أثبت ولاءه لها.

ثم جاءت ثورة فبراير.! ولا أعتقد أن مقالا واحدا يحصر ما لها وما عليها. الأمر، إذن، أساسة البشر أنفسهم وتلك النظرية التي دوخت الدنيا وهي تحاول أن تفسر للبشر علاقة الحرية بالسلطة، والسلطة بالقوة عندما لا تتوافق الآراء حول مفهوم الحرية. أما اللافت للنظر أن معظم الثورات انتهت بأغنياء" ثورات" على وزن أغنياء حرب؟ أما إن تصادفت ثورة مع حرب، فتوافق أغنياء الحالتين يحتاج إلى معجزة، أو إلى إفلاس الدولة تماما!